إعلان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليست «غير شرعية» كان عملاً خطير العواقب في الواقع وإن لم يكن للأسباب التي ذكرها الإسرائيليون والفلسطينيون. لقد كان «مسمارا في نعش عملية السلام» كما أعلن بعض الفلسطينيين. والقرار ليس خطيراً للغاية فيما يتعلق بالمستوطنات، لأنه على مدار العقود الثلاثة والنصف الماضية انتقلت سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه المستوطنات الإسرائيلية من الإذعان السلبي إلى القبول الصريح.
لقد كانت إدارة رونالد ريجان هي أول من قال إنها لا تعتقد أن المستوطنات ليست غير شرعية. وكانت إدارة جورج بوش الابن هي التي حاولت أن تميز بين «الوقائع القائمة» والمستوطنات الجديدة. وزعم بوش أن «الوقائع القائمة» هي المستوطنات التي بُنيت بالفعل ويمكن أن تظل كما هي بينما المستوطنات الجديدة يتعين إحباطها. واستغل الإسرائيليون هذه الثغرة وواصلوا البناء مع علمهم بأن الرؤساء الأميركيين قد يشكون منها لكنهم لن يحركوا ساكناً لوقفها. وكانت النتيجة النهائية هي أن سكان المستوطنات في الأراضي المحتلة ارتفع عددهم من 50 ألفا أثناء إدارة جيمي كارتر إلى 620 ألف مستوطن إسرائيلي حتى قبل تولي دونالد ترامب المنصب. وبناء على هذا، لا غبار على أن نقول إن إعلان ترامب بشأن المستوطنات الإسرائيلية لا يعكس أي تحول كبير في السياسة الأميركية. ومن السخف أيضاً أن نشير إلى أنه سيكون له أي تأثير على «عملية السلام».
الإعلان لن ينهي عملية السلام ولن يقضي عليها، ولكن يجعلها تتراجع أو تبطئ الخطى- وهذا، على وجه الدقة، لأنه لا توجد عملية سلام وليس هناك عملية سلام منذ سنوات. والواقع أن الزعم بوجود عملية سلام هو وهمٌ بثته الولايات المتحدة لتسيطر على السلوك الفلسطيني ولإبعاد الأوروبيين والعرب وللحفاظ على انفراد أميركا بالسيطرة على «العملية» ولحماية الإسرائيليين من أي عقوبات أو ضغوط دولية. والأهمية الحقيقة لإعلان إدارة ترامب هي شيء مختلف تماما يتمثل في أنه يُظهر تجاهلاً صارخا للقوانين والمعاهدات الدولية ودور المجتمع الدولي والحقوق العالمية للإنسان.

لقد شهدنا بالفعل هذا التوجه واضحاً في انسحاب ترامب من الاتفاقات الدولية المختلفة التي تفاوضت فيها الإدارات السابقة فيما يتعلق بالتجارة والمناخ والتحكم في الأسلحة. واتضح هذا التوجه أيضاً في التهديدات التي أصدرتها الإدارة بشأن معاقبة دول أخرى صوتت ضد الولايات المتحدة في الأمم المتحدة وأيضا في الاحتقار الذي أبدته الإدارة تجاه المحكمة الجنائية الدولية وعدد من وكالات الأمم المتحدة.
وفي القضايا المتعلقة بالنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، أظهرت الإدارة الحالية احتقارها مراراً للقانون واتفاق الآراء الدوليين –مثل محاولة إضفاء شرعية على الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية ومرتفعات الجولان ومنع التمويل عن اللاجئين الفلسطينيين ورفض الاعتراف بحقوقهم بل وبوجودهم. لكن جوهر الأمر هو أن مشروعية ونفاذ القانون والاتفاقات الدولية لا ترجع إلى فاعل سيئ واحد ولا إلى دولة ناشزة واحدة.
وهنا يصبح سلوك الولايات المتحدة خطير العواقب، ويمثل إشكالية بشكل خاص. فلا تستطيع الولايات المتحدة من تلقاء نفسها أن تجعل من مستوطنات غير قانونية أمراً مشروعاً، أو أن تمنح أراضي محتلة إلى محتل أو تمنع حقوق اللاجئين عن اللاجئين ونسلهم. فهذه أمور تتعلق بالقانون الدولي ومعاهدة جنيف الرابعة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بموافقة غالبية ساحقة من أمم العالم. فوضعية هذه الحقوق الفلسطينية ظلت كما هي لم تتغير رغم التصرفات الأميركية. لكن مرور عقود من عدم الاحترام الأميركي للقانون والحقوق والمؤسسات الدولية أثر على إمكانية تطبيق هذه القواعد وعلى قدرة هذه الهياكل في أن تلعب دورها بفعالية في حكم العلاقات بين الأمم وتصرفاتها الواحدة تجاه الأخرى.

وهذا أهم ما في إعلان ترامب. والواقع أن هندسة الدبلوماسية وحكم القانون واحترام الحقوق العالمية تم تجاهله أو تطبيقه انتقائياً. وصحيح أيضاً أن هذه الهياكل والقواعد لا تعمل إلا حين تتمسك بها الدول القوية وتدعمها. ولذا فحين تجاهلت الولايات المتحدة في الماضي القانون الدولي أو أدانت انتقائيا منتهكي حقوق الإنسان، فهذا قوض حكم القانون وأضعف بنية العلاقات والدبلوماسية الدوليتين. ما فعله ترامب هو أنه مضى بهذه التفكيك للدبلوماسية والقانون خطوة أبعد، بل أعرض حرفياً عن القانون الدولي ومعاهدات حقوق الإنسان. وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يمثله سلوكه.
رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن