بعد الاعتداءات الهمجية لـ«حزب الله» و«أمل» لقمع ساحات الانتفاضة الشبابية، وبعد غزوة «الرينغ» (الخط الفاصل بين المنطقتين الإسلامية والمسيحية في الحرب) وتوسيع هجماتهما على الأحياء السكنية الآمنة (مونو) وتحطيم زجاج المنازل والسيارات والهتافات المذهبية «شيعة شيعة» وامتداد هذه الخطة الترهيبية إلى طرابلس (أيقونة الثورة) كل ذلك استحضر شبح الحرب الأهلية خصوصاً عندما شنت هجمة من الشياح على عين الرمانة حيث فجرت بوسطة انطلاق الحرب الأهلية عام 1975. كل ذلك مهد له حسن نصر الله بخطابه الأول بعد يومين من الانتفاضة، عندما قال: «ونحن أيضاً عندنا شارعنا ويمكننا إنزاله، لكن إذا فعلنا ذلك فستتغير كل المعادلات».
وكل هذه التصريحات المهددِة، وما حدث بعدها زرعت الخوف في نفوس اللبنانيين «هل سنعود إلى الحرب المذهبية المشؤومة»، لكن بين مَن ومن ستكون الحرب؟ فالمسلحون الوحيدون هم «حزب الله» و«أمل». فهل هذا يعني فعلاً استعادة مسرحيات الحرب؟
نظن وخلافاً لهذه التأويلات والمخاوف أن كل ما جرى، برغم وحشيته لم يكن يهدف سوى إلى قمع الثورة، وإلى ردع ألوف الشبان الشيعة الذين شاركوا فيها، والضغط على الحريري ليقبل ترؤس الحكومة بشروط «محور المقاومة»، أي حكومة تكنوقراطية سياسية، رفضها الحريري ملبياً مطالب الحراك باستقالته إلا بشرط حكومة تكنوقراطية صرفة.
فالحرب التي اندلعت عام 1975 كان لها ظروفها وأسبابها ومعطياتها الخاصة: فلبنان كان رازحاً تحت وصايات عدة، الفلسطينية، السورية والعراقية، والليبية والاحتلال الإسرائيلي، أي كان هناك داخل لبنان صراعات عربية عربية بين «البعثيْن» السوري والعراقي، وبين المقاومة الفلسطينية التي حاولت إيجاد حيثية صلبة سلطوية لها خصوصاً عندما تمكنت من السيطرة على معظم مفاصل السلطة. وكان ضمن هذا الإطار أن قُسّم الجيش وقوى الأمن والشعب إلى مواجهة بين المسيحيين الذين أرادوا القضاء على النفوذ الفلسطيني بلجوئهم إلى نظام الأسد الذي دخل لبنان بحجة تلبية نداءاتهم وإنقاذهم. وتدفقت الأسلحة على المليشيات وكذلك الأموال بعشرات المليارات في سباق دموي بين من سيسيطر على البلد والاستيلاء على ورقة الأمن وقرار الحرب والسلم في الجنوب المحتل: أسوريا أم العراق أم المقاومة الفلسطينية؟ كانت الأجواء ملتهبة ومصيرية وضع اللبنانيون في مواجهة بعضهم: «يا قاتل أو مقتول»، بل صارت مع الوقت وكأنها حرب عالمية في لبنان.
أما اليوم وبعد «مؤتمر الطائف»، وما نتج عنه فلم يعد يمتلك أحد السلاح سوى «حزب الله» الذي بعد إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان احتل مكانها في الجنوب في مواجهة إسرائيل: فانتقل قرار الحرب والسلم على الحدود الجنوبية من المقاومة الفلسطينية والعرب إلى الحزب وحلفائه الخارجيين.
أما اليوم فمعظم الأنظمة التي شاركت في تدمير لبنان وتقسيمه قد سقطت أو ضعفت، نعم سيطر الثنائي الإيراني والسوري على لبنان إلى أن قامت ثورة الأزر وطرد «جيش النظام السوري» من البلد ليستفرد «حزب الله» بالسلطة المعممة التي أدت مع أسباب أخرى إلى ما نحن عليه اليوم. فالظروف الراهنة لا تشير إلى احتمال اندلاع حرب أهلية: فالقوة الداعمة لـ«حزب الله» في الحضيض اقتصادياً. وبعض العرب مشغولون بمواجهة شتى الاعتداءات عليهم، والعالم منهمك بقضاياه الخاصة والشعب اللبناني غارق كله في الفقر والعوز والانهيار الاقتصادي وغير مستعد لحمل السلاح.
لهذا فمونولوغ الثنائي المذهبي لا يتعدى الترهيب والتهويل لأن «حزب الله» نفسه الذي يعاني أزمات مالية وسياسية واجتماعية قد يكون آخر من يريد أن يغامر بلعبة الحرب خصوصاً بعد انتفاضة الشعب اللبناني على النظام السياسي وعلى سلطته.. فلا حرب أهلية «على» لبنان.