يبدو هذا العنوان متناقضاً، فلحظة الآن تتضمن القطيعة مع الماضي، فكيف يكون لها تاريخ؟ لكن سيتضح بعد قليل ألا تناقض. عندما خرج كتاب «إيكهارت تولي» المعنون بـ «قوة الآن» في 1997 هز العالم، وتحوّل المؤلف الألماني من متشرد ينام في الحدائق العامة في لندن ويأكل وجبة واحدة في اليوم، إلى أحد أعظم المرشدين الروحيين في العالم، وأصبح يوضع في مرتبة تلي مرتبة الدلاي لاما.
كتبتُ وكتب غيري عن هذا الكتاب المخلّص، وسأختصر فكرته هنا بالقول، إنه ينطلق من أن الزمن الوجودي وهم لا حقيقة له. ليس هناك إلا لحظة واحدة طويلة ممتدة، لا يصح أن نقول ممتدة في الماضي ولا في المستقبل لأنه لا يوجد ماض ولا مستقبل، لا يوجد إلا اللحظة الحاضرة، لحظة الآن الخالدة. عندما تسرح بذاكرتك نحو حادثة خسارة خسرتها منذ سنوات، فإنك تسرح حين تسرح وأنت في لحظة الآن الحاضرة لم تغادرها، وحين تتوتر قلقاً من أمر تخشى أن يحدث في المستقبل، كأن تفقد عملك أو أحداً ممن تحب، فإنك تقلق وأنت في لحظة الحاضر لما تغادرها. لا يوجد ماضٍ تحزن عليه ولا يوجد مستقبل تخاف منه، فاهنأ بحياتك واستمتع باللحظة ولا تركز تفكيرك على أي فكرة تثير فيك المشاعر السلبية من خوف وغضب وحزن وألم وقلق ولوم، استمتع بالأشياء البسيطة في الحياة وإنْ كان قدحاً من الشاي، ودع القادم ينتظر دوره حتى تراه في لحظة الآن ثم تعامل معه بالتسليم والقبول، ثم التجاوز.
إنها فكرة عظيمة تلقاها العالم بالقبول وأصبح كتاب «تولي» من أنجح الكتب وأكثرها مبيعاً، ولا زال الرجل يُستضاف حول العالم ليحاضر عن فكرته.
إلا أن البحث أوصلني أن الفكرة ليست له، فاكتشفت أولاً أنها ترجع إلى فيلسوف لاهوتي ألماني يعرفه المتخصصون باسم «مايستر إيكهارت»، رجل عاش في العصر الذهبي للتصوف المسيحي ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وعُرف بأنه رجل استثنائي مثير للجدل، وكان الأعمق من الناحية الفلسفية بين كل المتصوفة المسيحيين، لكن الكنيسة رأت أن بعض آرائه تتضمن الهرطقة، وكاد يلاقي مصير الحلاّج في بغداد، لولا أنه مات بعد استدعاء الكنيسة له لمحاكمته على قوله بوحدة الوجود.
هذا الرجل له نصوص مذهلة كتبها كمواعظ، رغم احتوائها على لغة شعرية وجدانية في غاية الجمال، يتحدث فيها عن «لحظة الآن الخالدة» والوعي الصوفي الذي لا يكون فيه كدر من تقلبات الدنيا.
ثم اتضح لي أن تاريخ «لحظة الآن» يمتد إلى ما هو أقدم من متصوفة المسيحية، فقد كتب د. ت. سوزوكي ناشر الفكر الشرقي في البلاد الغربية، كتاباً بعنوان «التصوف المسيحي والبوذي» يرجع فيه «مايستر إيكهارت» إلى فلاسفة «الزن» البوذية ممن عاشوا قبل ميلاد المسيح بمئات السنين، رغم أن اللاهوتي الألماني، على الأرجح، لا يعرف أي شيء عن البوذية والبوذيين. ومع هذا، فلا شك بتاتاً أن العيش في لحظة الآن الخالدة هو «النرفانا»، التي هي أعظم أفكار التصوف البوذي، بل هي التصوف البوذي، حيث لا شيء سوى السلام الروحي الخالد.
من هنا يتضح أن الفكرة أقدم بكثير من كتاب «إيكهارت تولي» «قوة الآن»، و«تولي» لم يُنكر الامتدادات التاريخية لفكرته، لكن التواصل مع جمهوره العريض بالكتب واللقاءات التلفزيونية وقنوات التواصل الاجتماعي الكثيرة قد أعطى «تولي» الفرصة الكبرى لتطوير هذا المذهب والذهاب به إلى منتهاه دون البقاء في إطار دين معين، بل استطاع أن يجعل الفكرة صالحة لاستخدام كل البشر على اختلاف مذاهبهم.
*كاتب سعودي