أثيرت ضجة كبيرة بسبب زيادة إنفاق الحكومة الأميركية على البحث والتطوير. تشير نظريات اقتصادية مثل نظرية «بول رومر»، الفائز بجائزة نوبل لعام 2018، إلى أن إنفاق المزيد على البحث والتطوير من شأنه أن يعزز النمو الاقتصادي على المدى الطويل. كما يعتقد عدد متزايد من الاقتصاديين أن إجراء الأبحاث الأساسية هي عمل لا يمكن إلا للحكومة القيام به، ولأنه من الصعب تحقيق أرباح بشكل مباشر من البحث الأساسي، هناك مسار واضح من الاكتشافات التي تمولها الحكومة إلى ابتكارات القطاع الخاص. ويُظهر تاريخ الإنفاق البحثي في الولايات المتحدة ما بعد الحرب هذا المسار وهو في حيز التنفيذ. وقد اعتمدت التكنولوجيات الرئيسية من الإنترنت إلى الهواتف الذكية إلى الطاقة الشمسية بشكل كبير على الإنجازات التي تمولها الحكومة.
بيد أن هذا المسار ينهار. فقد قلصت تخفيضات الموازنة دور الحكومة كمحرك للإنفاق على الأبحاث. وقد يؤدي هذا إلى ندرة في تحقيق إنجازات كبيرة في المستقبل. وقد تكون النتيجة هي تباطؤ النمو وتناقص القدرة التنافسية الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة، فضلاً عن انخفاض القدرة على مكافحة التغير المناخي.
وتؤكد ورقة بحثية جديدة أعدها الاقتصاديون «إنريكو موريتي» و«كلوديا شتاينفندر» و«جون فان رينين» أهمية مساهمة الحكومة وأن المزيد من الإنفاق الحكومي على البحث والتطوير يؤدي إلى زيادة أبحاث القطاع الخاص.
من الصعب قياس تأثير الإنفاق الحكومي على الإنفاق الخاص لأن كليهما قد يستهدف نفس مجالات البحث الساخنة. وتغلب موريتي وزملاؤه على هذه المشكلة من خلال النظر في الزيادات في الميزانية العسكرية في البلدان المتقدمة، وتميل هذه إلى تعزيز كافة المجالات الدفاعية، بما في ذلك البحث والتطوير. ولأن الأموال تميل إلى أن يتم توزيعها بنسب ثابتة إلى حد ما على مختلف الصناعات، فقد تمكن الاقتصاديون من فصل استجابة القطاع الخاص. ووجدوا أنه مع كل زيادة بنسبة 1% في الإنفاق على أبحاث الدفاع في صناعة ما، يرتفع الإنفاق على الأبحاث الخاصة بنحو 0.5%.
لذا فإن الإنفاق الحكومي يحفز الشركات على القيام بالمزيد من الأبحاث الخاصة بها. كما وجد موريتي وزملاؤه أن هذا يميل إلى زيادة فرص العمل داخل صناعة ما، وكذلك تعزيز مهارات العمال وإنتاجيتهم.
لذا فإن فكرة وجود مسار أبحاث من الحكومة إلى الصناعة هي فكرة حقيقية للغاية. ستكون هذه أخباراً مشجعة للغاية لأولئك الذين ينتمون إلى اليسار السياسي والذين يدافعون عن دور اقتصادي أكبر للحكومة. لكنهم قد يكونون أقل حماسة بشأن حجم الدور الذي يلعبه الجيش.
في العديد من الدول الغنية، لا يمثل الدفاع عنصراً كبيراً في الإنفاق البحثي. ومع ذلك، فإنه في الولايات المتحدة يشكل أكثر من نصف الإنفاق البحثي.
وعلاوة على ذلك، فإن الجيش يكون أفضل تجهيزاً من القطاع الخاص والمختبرات الجامعية التقليدية بالنسبة لبعض أنواع الأبحاث الخاصة. أما نموذج وكالة مشاريع أبحاث المتطورة دفاعياً (داربا)، الذي يجمع فرق الباحثين من مختلف المجالات والمؤسسات لخلق تكنولوجيات غير مسبوقة فلن يكون هناك مجال للتفكير فيه من الناحية العملية بسبب الشركات التي تكون عازمة على حماية الأسرار التجارية أو الأساتذة الذين يتنافسون من أجل الحصول على منح ووجاهة التمويل. وليس من المفاجئ أن معظم صناعة تكنولوجيا المعلومات الحديثة تعتمد على أبحاث «داربا» القديمة بطريقة ما.
بيد أن الإنفاق العسكري لا يحظى بشعبية بشكل خاص، والجمهور منقسم حول هذه القضية. هذا أحد الأسباب التي تجعل ميزانية الدفاع الأميركي تقترب من أدنى مستوياتها التاريخية كحصة من الاقتصاد. وفي الوقت نفسه، هناك خطر إهدار التمويل العسكري العام على مشاريع لا فائدة منها، أو استخدامه لتمويل المغامرات العسكرية.
وأحد الحلول هو تحويل «داربا» وغيرها من أبحاث وزارة الدفاع إلى وكالة منفصلة غير عسكرية ذات تدفقات تمويل مستقلة. ولكن هذا تم مع «اربا –إي»، ذراع أبحاث الطاقة لوكالة «داربا»، ولكن النتائج لم تكن مشجعة. وقد سعى الرئيس دونالد ترامب مراراً وتكراراً إلى خفض ميزانية «اربا-إي» الضئيلة بالفعل أو إلغائها بالكامل، نظراً لأن الوكالة ليست جزءاً من وزارة الدفاع، فمن المرجح أن يمضي المحافظون قدماً.
والفكرة الأفضل هي جعل زيادة الإنفاق العسكري مرهونة بتخصيص وزارة الدفاع المزيد من الإنفاق للبحث. وسيمثل هذا حلاً وسطاً يمكن أن يوافق عليه مؤيدو ومعارضو التمويل العسكري.
وهكذا، فإن الأبحاث الدفاعية هي مثال ساطع لمؤسسة أميركية ما زالت تعمل على مستوى عالٍ للغاية وتولد فوائد واسعة للبلد بأكمله وما وراءه.
*أستاذ مساعد للشؤون المالية بجامعة ستوني بروك الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»