على عتبات نهاية عام وبداية عام جديد تطل علينا من نافذة الأحداث علامات شكلت العام المنصرم، وقد كان من أهمها، وربما أهمها في واقع الحال، ما قدمته الإمارات العربية المتحدة إلى العالم من مسحات تسامح وتصالح، وما عاشته على أرضها زعامات دينية عالمية، سعت في طريق الأخوة الإنسانية، وبشرت بخطاب المودات، ذاك الذي يباعد بيننا وبين الكراهيات.
على أنه وربما من سوء الطالع، فإن العام لا يود الرحيل قبل أن يترك بصمة مزعجة لكل صاحب ضمير حي وروح وثابة، من جراء تصاعد لغة الكراهية التي أشرنا إليها مراراً، وقد كانت أوروبا - ويا له من عبث الأقدار – قارة التنوير والإنسانيات، موقعاً وموضعاً لها، ويخشى المرء أن يكون القادم أسوأ.
يرحل العام وأزمة نقاش حاد تحتدم في أوروبا حول التفرقة بين مساحة حرية الرأي، وعلامات خطاب الكراهية والتحفيز ضد الآخر وصولاً إلى إقصائه وعزله، ومن ثم صبغ كل الأشياء بلون واحد، ما يعني رجوعاً عن ميادين التسامح وقبول الآخر، إلى خانة التناحر الفاشي والنازي الذي دفعت أوروبا تكلفات غالية له عبر الأزمان.
تعني حرية الرأي مقدرتك على التعبير عما يجول بخاطرك، لكنها ليست مقدرة مطلقة على تناول كل القيم والمعتقدات، المبادئ والأخلاق، المقدسات والموروث الإنساني، فهذه بصورة أو بأخرى يتوجب صونها مما يعرضها للهجوم أو الامتهان تحت حجة حرية الرأي، ذلك أن الأمر في هذا الإطار يتحول إلى خطاب عداء ومادة للكراهية، لا سيما حال الاقتراب من يقينيات الآخر ومطلقاته، إضافة إلى جذوره وتراثه وعرقه.
من بين الذين توقفوا الأيام الماضية أمام المسافة الفاصلة بين الحالتين، مستشارة ألمانيا السيدة انجيلا ميركل، والتي ألقت خطاباً تاريخياً أمام البرلمان الألماني، أكدت فيه أن حرية التعبير لها حدود، وأنها تنتهي حيثما يتم التحريض ونشر الكراهية، وتنتهك كرامة الآخرين.
ما الذي يجري في ألمانيا تحديداً ويستدعي فتح هذا الخطاب مرة جديدة؟ ربما الوضع أخطر مما يظن البعض، فكلمات السيدة ميركل تخفي وراءها قلقاً بالغاً من تنامي تيارات يمينية أصولية وقومية ألمانية لا لغة لها إلا لغة الكراهية المتدثرة في ثوب حرية الرأي.
سبق وأن أشرنا إلى أن تنامي اليمين الألماني المتطرف بات قضية قائمة بذاتها، لا سيما بعد وصول حصول مائة مرشح من حزب «البديل من أجل ألمانيا»، المعروف بآرائه الصادمة والمنافية لقيم الديمقراطية إلى مقاعد البرلمان الألماني.
عطفاً على ذلك، هناك خطر الجماعات الألمانية المعروفة مثل «بغيدا» التي عزفت نشازاً كثيراً على مسألة اللاجئين الذين استقروا في البلاد، وقد جرت من وراء تلك الجماعة حوادث عنف عديدة كلها تنذر بتصاعد عدائي للآخر.
ما تشير إليه أنجيلا ميركل أن الكراهية تتخفى اليوم تحت ستار حرية الرأي، ومساحة التعبير التي تصونها وتضمنها الدساتير الأوروبية، وعند أي مطالبة بتقنين مثل هذا الخطاب، يحاجج بعض غلاة اليمين الأوروبي المتطرف عامة، وليس الجانب الألماني فقط، بأن هذا حجر ومنع لحق إنساني يتمثل في الحربة الشاملة والجامعة للتعبير.
أمام نواب الشعب الألماني تجاهر ميركل بأن: «جميع من يدعي باستمرار بأنه لم يعد مسموحاً لهم بعد الآن الإفصاح عن رأيهم، يتعين أن يتقبل معارضته، فلا توجد حرية رأي من دون مقابل».
تبدأ الكوارث الإنسانية بتجاوز أخلاقي وتعالٍ عرقي، هذا ما حدث في النصف الأول من القرن العشرين في ألمانيا وإيطاليا، حيث ولدت النازية والفاشية، واليوم يتكرر الخطاب عينه، غير أن الطامة الكبرى تتمثل في أن هذا الخطاب العدائي، يتحول سريعاً جداً إلى أفعال عدائية كارثية على الأرض.
في الأسابيع الأخيرة تعالت أصوات التهديدات التي تصل إلى السياسيين الألمان منذرة ومحذرة إياهم بالقتل، بل وصل الأمر إلى إعداد جماعات اليمين المتطرف قوائم بأسماء شخصيات عامة، ممن يتهمون بأنهم سهلوا تغيير التركيبة الديموغرافية لألمانيا الآرية، أي الخطاب النازي نفسه قبل ثمانية عقود ونيف، وكأن التاريخ يعيد نفسه ومن دون أدنى استفادة من دروس الماضي وأحاجي الإنسان.
يذهب وزير الداخلية الألماني بأنه لا تسامح مع معاداة السامية أو الكراهية للأجانب، وهذا أمر جيد، غير أنه يتوجب عليه بالقدر نفسه وضع مسألة تنامي الموجات اليمينية المصابة برهاب الإسلام، وما يعرف بـ «الإسلاموفوبيا» تحت المجهر بالقدر نفسه.
كارثة اليمين الألماني المتطرف أنه بات يمتلك تكنولوجيا تواصل مع الآخر مليئة بمواد الكراهية والتطرف، والأفكار لها أجنحة تطير ولا أحد يستطيع أن يقبض عليها، وكأن ألمانيا تغرق في لجج الإرهاب المحلي.
هل من عقلاء يستنقذون ألمانيا من جب الكراهية العميق؟ هذا ما يأمله المرء من شعب لديه من تراث شعراء وفلاسفة وموسيقيين وأدباء ما يجعل رحابة الإبستمولوجيا تنتصر على ضيق الأيديولوجيا.
*كاتب مصري