كانت السنوات الثلاث الماضية، سنوات صعبة بالنسبة للولايات المتحدة، وخاصة بالنسبة لأي شخص يكترث للحكمة الجيدة، والأخلاق الديمقراطية، ومستقبل المجتمعات المفتوحة، غير أنه كانت هناك بقعة ضوء واحدة، ألا وهي الاقتصاد الذي تحدى توقعات الخبراء، عبر مواصلته خلق الوظائف والنمو والأرباح والأجور المرتفعة، وقد ذُكِّرنا بهذا مرة أخرى، يوم الجمعة، مع خبر يفيد بأن الاقتصاد الأميركي أضاف 266 ألف وظيفة جديدة الشهر الماضي، ما خفّض البطالة إلى أدنى مستوى لها، منذ 50 عاماً.
وعليه، فربما الآن ليس هو أحسن وقت ليقترح المرشحون «الديمقراطيون»، أن نحوّل أنفسنا إلى نسخة اقتصادية لفرنسا، هذه هي طريقتي لقراءة تقرير مفيد لـ«جيم تانكرسلي»، من صحيفة «نيويورك تايمز»، والذي وصف - يوم الخميس الماضي- الطرق التي تحاول بها السيناتورة إيليزابيث وارن، وتقدميون آخرون، قلب عقود من التفكير الاقتصادي، عبر التشديد على أن من شأن زيادات حادة في الضرائب على الشركات والأغنياء تسريع النمو، وليس خفضه، ففي حال تولي وارن الرئاسة، فإن تلك الزيادات ستكون مصحوبة بزيادات كبيرة في الإنفاق الحكومي، وتغيرات جوهرية في بنى الاقتصاد الخاص.
مقال تانكرسلي، تزامن مع جولة جديدة من الإضرابات الوطنية العامة في فرنسا، حيث خرج 800 ألف شخص على الأقل إلى الشوارع، للاحتجاج على محاولات إيمانويل ماكرون، بتحديث أنظمة التقاعد العامة المعقدة، فواحد على الأقل من هذه الأنظمة (هناك 42 نظاماً) يعود إلى حكم لويس الرابع عشر، وبعضها يبدأ العمل به، عندما يتقاعد العمال في الخمسينيات من أعمارهم، ما يكلّف الدولة مبالغ مالية متزايدة، في وقت أخذ فيه متوسط أمد الحياة يطول.
الحكومات الفرنسية المتعاقبة، من اليسار واليمين، تحاول إصلاح هذا الجانب، وجوانب أخرى من اقتصاد البلاد منذ عقود، لكنها لم تحقق سوى نتائج محدودة فقط، والمزايا الاجتماعية عندما تمنح، يصبح من الصعب تقليصها، ناهيك عن سحبها، وهذا ما يفسر تكرر الإضرابات، فمنذ عام 1789، طورت الحكومات الفرنسية حساسية شديدة تجاه الاحتجاجات الجماعية، التي باتت تذعن لها في أحيان كثيرة.
وهذا ما يفسر أيضاً الأزمة الاقتصادية الدائمة في فرنسا، فمعدل البطالة في البلاد لم ينخفض تحت 7% منذ عام 1983، ويبلغ اليوم 8.6%، والبطالة طويلة الأمد تفوق 40%، مقارنة مع 13.3% في الولايات المتحدة، ومعدل النمو السنوي للبلاد لا يتجاوز في المتوسط 1% سنوياً، منذ مطلع القرن الـ21، ومن المتوقع أن يبلغ 1.3% هذه السنة.
واعتباراً من العام الماضي، بلغ معدل صافي الأجور الشهري 1930 دولاراً فقط، ما يعني أن نصف العمال الفرنسيين يتقاضون أجوراً أقل من ذلك، وهذا ما يفسر لماذا استشاطت البلاد غضباً، عندما اقترح ماكرون زيادة ضرائب الوقود، ببضعة سنتات للتر.
صحيح أن هذه المؤشرات  الاقتصادية  ترجع في جزء منها  إلىد  اختيار فرنسي   مختلف  هو مسألة اختيار فرنسي مختلف، وربما أحسن، في ما يتعلق بإحداث توازن بين العمل والراحة، وصحيح أيضاً أنه  يتم التعويض عن ذلك جزئياً بخدمات عامة ذات جودة، وحماية أكبر للعمال، وتفاوت اقتصادي أقل.  ومن ناحية أخرى، فإن الخدمات الصحية التي كانت ذات يوم مفخرة فرنسا، باتت اليوم تعاني من ضغط كبير، ونقص الموظفين، بل أضحت «على شفا الانهيار»، وفق تقرير لصحيفة «ذا جارديان»، والجامعات الفرنسية، ولئن كانت رخيصة، فإنها تعاني من الازدحام ونقص التمويل، ومشهورة بمستواها المتوسط، والعمال الفرنسيون يمارسون حقهم في الإضراب، أكثر بـ7 مرات تقريباً من العمال الألمان، وبـ125 مرة من العمال السويسريين.
كل هذا، يفترض أن يشكل تحذيراً قوياً لـ«الديمقراطيين»، ففرنسا هي صاحبة أعلى مبلغ تجمعه حكومة من الضرائب، بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (46.9? في الناتج المحلي الإجمالي)، وأعلى معدل من الإنفاق الحكومي (56.38? من الناتج المحلي الإجمالي)، وأعلى معدل من الإنفاق على شبكة السلامة الاجتماعية، وثالث أعلى معدل من الإنفاق على المعاشات. وأياً تكن الأشياء الأخرى، التي قد تفعلها كل هذه الضرائب وكل هذا الإنفاق، فمن الواضح أنها لا تخلق الوظائف أو الازدهار، أما في ما يتعلق بإسعاد الناس، فإن فرنسا ليست من بين البلدان العشرين الأولى في «تقرير السعادة العالمي»، وحتى المكسيك تتبوأ مركزاً أعلى منها.
لا أريد لهذا المقال أن يكون سلبياً بخصوص فرنسا، وهي دولة عظيمة ذات عمق قل نظيره، من حيث الثقافة والقدرة على التفوق، إنه تكريم للفرنسيين الذين يواصلون النجاح في كثير من المجالات، على نحو يفوق قدراتهم، بينما يجثم وزن الدولة الثقيل على صدورهم، غير أنه في ما يتعلق بالنماذج، فإن قصة الاقتصاد الفرنسي في الأربعين عاماً الماضية، هي في الغالب قصة منقلبات سيئة، وآمال محبَطة، وفرص مهدَرة، وعلى الأميركيين ألا يتخيلوا أنهم يستطيعون السير في ذاك الطريق المسدود المألوف، كي لا يصطدموا بمشاعر خيبة الأمل والإحباط نفسها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»