مع اختتام القمة السنوية السبعين لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لندن، من الممكن القول إن دونالد ترامب يعتقد بأن معظم أعضاء التحالف، بدءاً من فرنسا وكندا، هم مجموعة من المتطفلين الجاحدين وغير المتعاونين. ومن الصحيح كذلك القول إن معظم هؤلاء الأعضاء يرون أن ترامب شخص متقلب ومتغير المواقف.
ليس هناك سبب يجعل كلا الأمرين غير صحيح.
لقد تم تحديد أسلوب القمة قبل عدة أسابيع، عندما أجرى إيمانويل ماكرون مقابلة مع مجلة «إيكونومست»، حيث حذر من «الموت الدماغي» للناتو، وتساءل عما إذا كانت التزامات الدفاع المتبادلة للحلف تعني أي شي، وتخيل ماكرون سيناريو تطالب فيه تركيا سائر أعضاء الناتو بلعب دور داعم في مغامرتها الهمجية في شمال سوريا.
وقوبلت تصريحات ماكرون بالتوبيخ على نطاق واسع، وجاء معظمها من ترامب الذي وصفها بأنها «غير محترمة وسيئة للغاية وإهانة لكثير من القوى المختلفة».
ومع ذلك فقد كانت أيضاً صحيحة جداً. فقد أعلن ترامب انسحابه من سوريا دون أن يكلف نفسه عناء التشاور مع فرنسا أو بريطانيا، وكلاهما لديه قوات خاصة على الأرض تقاتل تنظيم «داعش» الإرهابي. إنه ترامب، وليس ماكرون، الذي وصف الناتو ذات يوم بأنه «عفا عليه الزمن»، كما أن ترامب هو الذي أثار الشك مراراً وتكراراً حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستدافع عن دول «الناتو» ضد أي هجوم.
بيد أن الكلمات لها عواقب، فقد تعتقد القواعد السياسية الانتخابية لترامب أنه من الجيد أخذ أقواله على محمل الجد، لكن ليس حرفياً. وحلفاء المعاهدة مثل فرنسا لا يمكن أن يكونوا غير مكترثين إلى هذا الحد. إذا كان ماكرون يستكشف الآن خيارات فرنسا من خلال الحديث عن احتمال وجود جيش أوروبي مع الاستخفاف بتهديد روسيا، فهذا لأن خطاب ترامب وسلوكه الجامح هو الذي قاده إلى هنا.
في عام 2011، حذّر وزير الدفاع «روبرت جيتس» من «مستقبل قاتم إن لم يكن كئيباً» للتحالف إذا استمرت دول مثل ألمانيا في خفض الإنفاق على الدفاع. وبعد ذلك بثمانية أعوام تقريباً، وجد تقرير للبرلمان الألماني أن أقل من نصف الطائرات المقاتلة في البلاد جديرة بالقتال وكذلك الحال مع غواصاتها الست. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية أنها تخطط لتحقيق أهداف «الناتو» بشأن الإنفاق العسكري، لكن ليس حتى عام 2031.
وبالنسبة لصانعي السياسة الأميركية في أي إدارة، يبدو هذا كأنه شيء بين الإهانة الفظة والمزحة السيئة. ومعظم أعضاء «الناتو» الآخرين ليسوا أفضل حالاً. فكندا، مثلاً، تنفق 1.27% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع (بينما يستهدف الناتو الوصول إلى 2%) ولا تستطيع الوفاء بالتزاماتها للدفاع عن المجال الجوي لأميركا الشمالية. وعندما تم سماع جاستن ترودو أثناء القمة وهو يستخف بترامب لأنه استغرق وقتاً طويلاً في مؤتمره الصحفي، بدا رئيس الوزراء الكندي للكثير من الأميركيين مثل طفل يتذمر لأن أبويه تركاه ينتظر على العشاء!
كل هذا يعني أنه عندما يفكّر ماكرون وسائر القادة الأوروبيين بشأن إنشاء قوة دفاع أوروبية مستقلة، فإنهم، كما قال لي مراقب باريسي محنك «يلعبون بأوراق لا يملكونها». حتى الزيادات الكبيرة في الإنفاق الدفاعي لن تسد الفجوة التي سيحدثها الرحيل الأميركي من أوروبا: ما يقرب من نصف الإنفاق الدفاعي الأوروبي يذهب إلى الرواتب والمعاشات التقاعدية وليس القدرة القتالية. وهذا أسوأ من الموت دماغياً. إنه فشل فلسفي، ونتيجة منطقية للتقليل طويل الأجل من فكرة وجود مجتمع أطلسي (غربي) لا يتوحد فقط من خلال تاريخ مشترك أو أعداء مشتركين، ولكن أيضاً من خلال مجموعة موحدة من المثل العليا الأخلاقية والسياسية، والشعور بأن تلك المثل العليا تتشابك مع مصائر دول الحلف الأطلسي نفسه.
وقد سبق هذا التقليل ترامب وماكرون، وله أسباب تتجاوز الزعيمين، بما في ذلك التغييرات الأساسية في التركيبة الديموغرافية لكلا جانبي المحيط الأطلسي.. ومع ذلك، يتم تسريعها من قبلهما، من جانب ترامب، من خلال قوميته الخشنة، وتخطي الحدود الوطنية بشكل مستفز أحياناً. ومن جانب ماكرون، من خلال الإفراط في الانتهازية السياسية وندرة الحس الاستراتيجي. وهنا ستجد المعاداة للولايات المتحدة على الدوام جمهوراً متلقياً معظمه من الفرنسيين. لكن أوروبا من دون حماية أميركية هي كارثة قارية تنتظر الحدوث.
والخبر السار هو أن مؤسسة كبيرة كالناتو يمكن أن تستمر في العمل عسكرياً من خلال الطيارين الآليين لفترة طويلة تتجاوز فترة ولاية ترامب أو ماكرون. وفي مرحلة ما ستكون هناك حاجة لطيارين حقيقيين. فهل هناك زعيم في أوروبا يمكنه تقديم حجة بشكل مقنع على أن «الناتو» ليس مجرد الخيار الأرخص المتاح للأمن الأوروبي، ولكنه أيضاً أفضل وسيلة لتحقيق هوية ليبرالية وديمقراطية، وبالتالي فهو يستحق استثمارات أكبر بكثير؟ وهل هناك قائد في الولايات المتحدة، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، يستطيع شرح أن مصالح أميركا يجب أن تتشكل من خلال قيمها، وأن القيمة النهائية، وهي الدفاع عن عالم حر، هي مصلحة أميركية أوروبية مشتركة أيضاً؟
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

https://www.nytimes.com/2019/12/05/opinion/trump-nato.html