في خضم الحراكات الشعبية المتفجرة في العالم العربي وسواه، يتم التداول بشكلٍ متواتر وموصول شعار «المجتمع المدني». عبارة ترددت في الميادين والساحات والشوارع، وشغلت بال الكتاب والمفكرين وأهل الصحافة،، من دون أن تُحدد معانيها بشكلٍ دقيق أو تُصاغ بمفهوم أو بوظيفة. فهناك من يُطالب بها في أنظمة عسكرية أو أمنية واستخباراتية حيث تُفتَقد الديمقراطية وحرية التعبير والانتقال والتفكير. فالمجتمع المدني هنا يعبر عندما يختاره الناس ضمن انتخاباتٍ سليمة، نزيهة، من رؤساء وحكومات وممثلين لهم. إنه حكم الشعب لا طبقة مُعسكرة سياسياً أو غير سياسي.
وهناك من يرفع هذا الشعار في الظروف الاستثنائية قد تكون في ظل الحروب الأهلية أو إعلان حالات الطوارئ وسيادة الميليشيات وقوى الأمر الواقع، أي سيادة مبدأ القوة والفوضى والإلغاء، ويبدو هنا مطلب المجتمع المدني قيام دولة شرعية. تحترم حقوق الإنسان وحرية اختياره من خلال استعادة ما يسمى «الوحدة الوطنية».. هنا يتخذ الشعار معنىً وطنياً جامعاً تحت سقف قيمٍ جمهورية عادلة لا يُمكن أن يُحقق إلا بحصرية الدولة باقتناء السلاح الشرعي.
وهذا ما حدث في لبنان مثلاً، على امتداد 50 عاماً (منذ عام 1975) وحتى اليوم، حيث كُوّنت الميليشيات واستُخدمت كأدواتٍ للنفوذ الأجنبي على حساب البلد وحدوده. هُنا بالذات يتّخذ هذا الشعار معنىً تحررياً وسيادياً، إذ لا يمكن أن يستتب السلم الأهلي وشروط الحكم الجمهوري أو غير الجمهوري إلا بدولة قوية عادلة تُلغي هذه القوى الخاصة لتُلغي بها النفوذ الخارجي. فالمجتمع المدني يمكن أن يُطالب به في ظل استعمارٍ أو وصاياتٍ أو احتلالاتٍ أو شراذم مسلحة خارج سلطة الدولة.
ونظن أيضاً، من ناحيةٍ أخرى، أن في ظل الأوليغارشيات الاقتصادية إذا تحكمت بمفاصل النظام وفرضت على الطبقات الفقيرة والمتوسطة استغلالية فوقية فهذا يعني أنها مسّت حتى الحريات العامة، والمصائر، ومراتب المجتمعات. فنمط الاقتصاد الحر لا يعني أن تتسلط فئة قابلة على شرايين الاقتصاد وعلى المشاريع والتربية والجامعات والمؤسسات فتؤدي حتماً إلى إفقار المستويات وتهديد المساواة في الجمهوريات وفي توزيع الثروات الوطنية توزيعاً غير عادل. فالمجتمع المدني في ظل هذه الظواهر يستتبع، عن ضرورة أو حاجة مثل هذه المفاهيم، وعندها يصيب الخلل والفساد الحياة العمومية وحتى الفنون والأدب والفكر فتُسلّع وصولاً إلى الديمقراطية نفسها. فالأوليغارشيات المدنية أو الحزبية أو السلطوية عندما تصادر ثروات البلاد تُصادر معها القيم المدنية التي أشرنا إليها
والأخطر من كل ذلك إذا استبدت الأنظمة المذهبية بمثل هذه الاتجاهات، مما يعني ارتباط مخزون بلد ما بطائفة أو بأحزابٍ مذهبية تحكم وتفرض تمييزاً في المراتب والامتيازات والوظائف والنمو وأشكال النمو المتوازن كما كانت وما زالت الأحوال في العراق، وكما هي الآن في سوريا وفي إيران وفي تركيا وفي لبنان. وهذا يؤدي إلى حرمان الأقليات الأخرى مذهبية أو إثنية أو ثقافية أو طبقية من حقوقها المدنية والاقتصادية والاجتماعية الدنيا. إنها الأوليغارشيات الإيديولوجية والمذهبية التي تؤدي إلى ما يُشبه الشمولية، أي التهميش الهادف إلى انتزاع كل حرية بالوجود وبالتعبير وبالمطالبة وبالمساواة..
على هذا الأساس نجد أن التسامح واحترام الآخر والتعاطف تُداسُ كلها إذا لم يُبن مجتمع مدني، حتى في الأنظمة ذات الوجهة الدينية. ففي المجتمع المدني أيضاً جذوره الدينية والأخلاقية إذا مورست بشكلٍ صحيح، وكذلك الفكرية إذا تطابق الفكر والعمل من أجل الصالح العام، من هنا بالذات نرى أن المجتمع المدني لا يجافي الدين بشكل مطلق ولا الأخلاق ولا حتى التقاليد، بل هو من صميمها، لأن التعايش لا يقوم إلا على أساس التسامح ومثله السلم الأهلي، وكذلك الإيمان بالوطن وبالحرية وبالمعتقدات.