تلعب معظم دول العالم الصاعدة لمصافّ الدول الكبرى أو المؤثرة أو التي تؤدي دور العرّاب والوسيط الدائم للحرب والسلام واستقرار الأسواق العالمية دوراً مهماً في رسم خريطة العالم السياسية، والعسكرية والاقتصادية والمالية وهي بمثابة رمانة الميزان لتوازن القوى بين الدول العظمى والكبرى والأخرى الناشئة، حيث تسعى ليكون لها وجود فعلي دائم ومستدام على خريطة التأثير الدولي، وتجعل أهميتها معروفة للعالم أجمع، وللدول الأكثر هيمنة لكونها لا تدور في فلكها وحسب ولكنها حيوية لاستمرار تفوّقها ومصيرها كدول عظمى وكبرى، وذلك كالدور الذي تلعبه جنوب أفريقيا على سبيل المثال في سوق الذهب العالمي ومخزون الذهب وعلاقة ذلك كله بالعملات الصعبة والبنوك المركزية
عالمنا الحالي مترابط لدرجة لا يدرك معظم الناس مدى تعقيدها، فالقوة ليست في المعرفة والتكنولوجيا والتسليح والاقتصاد فقط، حيث لا تستطيع أكبر دول العالم وأغناها أن تعيش بمعزل عن باقي الموارد على الكرة الأرضية وبقائها يعتمد على إيجاد موضع قدم لها في كل دول العالم وأراضيها وبحارها التي لها قيمة مضافة في تعظيم قوتها ونفوذها وبقائها، والتحسّب لبروز مصادر نفوذ وتفوق نوعي جديدة تعيد توزيع الأدوار والمراهنة على التكتلات ضمن التقاطعات في المصالح القومية.
فالدولة الصاعدة تحتاج لتوفر مهارات استثنائية للعمل ضمن المنطقة الرمادية ما بين خيارين واضحين وأن تخفي نواياها الحقيقية حتى عن أقرب حلفائها، وأن يكون لها تاريخ في العمل السياسي الذي يمزج بين السياسة والدبلوماسية والاستفادة من أذرعها الاقتصادية والثقافية والمعرفية..الخ، والخلط في الرسائل الموجّهة والأفعال التي تقوم بها في السر والعلن ومدّ النفوذ بكل الطرق المتاحة لها ضمن ترسانة متنوّعة من الأسلحة الصلبة والناعمة والذكية والتقليدية، لتحقيق مكاسب سريعة ومتوسطة وأخرى طويلة الأمد، والتي تهدف جميعها إلى مواجهة استراتيجية «الضغط الأقصى» لتجنّب المزيد من التصعيد السلبي العكسي عليها، كأن ترفع أسعار سلع معينة ضمن حلف إقليمي أو دولي تؤثر فيه على الدولة المستهدفة وأنشطة ما بين الحرب والسلام من أجل تحدي الوضع الراهن وإدارة المخاطر في الوقت نفسه، ولا غبار في أن تحيط أهدافها بالضبابية من خلال ممارسة أفعال تدريجية والإسناد من خلال استغلال أنشطة وكيلة أو سرية قابلة للإنكار، مما يخلق حالة من عدم اليقين حول كيفية الرد.
وفي السياسة الدولية قد يكون هناك أثر عكسي للوضوح في الرؤية الخارجية للدرجة التي تجعل فيها خصومك في حالة طمأنينة تامة من خطوتك القادمة، ويُعزى جزئياً سبب انتشار صراعات المنطقة الرمادية في جميع أنحاء العالم إلى التزام الدول الكبرى بمفهومٍ ثنائي للحرب والسلام، إذ تتجذّر هذه الازدواجية في التقاليد الثقافية والقانونية الغربية، حيث تتيح لجهات فاعلة في منطقة الشرق الأوسط بالذات العمل العدائي غير المباشر والمباشر بالوكالة، بينما تكون هي محصّنةً نسبياً من العقاب ما بين حالتي الحرب والسلام، وهذه الدول تجد في استراتيجية المنطقة الرمادية وسيلة محكمة لتفادي الحروب التقليدية لأنها تدرك مدى الخسائر البشرية والتكاليف الباهظة التي يمكن أن تنتج عنها.
ومتى ما فهمنا استراتيجية المنطقة الرمادية في السياسة وتداعياتها اتضحّت لنا بصورة أكبر الفلسفة التي تقف خلف تصرفات بعض الدول في المنطقة، وآليات جس النبض لديها واختبارها للحدود ومعرفتها متى تسعى للإثارة ومتى تتراجع، فمن في المنطقة من دول ليس هدفها المباشر ولكنها ترمي إلى بعيد وتقيس الرد النسبي من أجل تعزيز فرص التنبؤ بردود الفعل، كما أنها تضبط وتيرة عملياتها للتحكّم في وتيرتها وسيرها لكي لا تخرج الأحداث عن سيطرتها.
واعتمادها على الأساليب غير الفتّاكة في الأنشطة ضمن المنطقة الرمادية هو دليل إضافي على أن إدارة المخاطر لا تزال تشكّل أولوية بالنسبة لها، ولا يزال التصعيد ممكناً لكن الحرب ليست خياراً مطروحاً لديها البتة، ولا تختلف الدول الكبرى في هذا الشأن عن باقي الدول، والموازنة بين ضبط النفس وردود الفعل المتناسبة غير متناسين أن ضبط النفس المفرط قد يزيد من مخاطر التصعيد عبر فتح المجال لتحديات جديدة.
وفي زيادة عدم اليقين وفرض التكاليف يجب أن نستبعد الرد العسكري، وكل الدول تسعى حكوماتها فقط إلى تحقيق مصالحها القومية من خلال التمديد وليس التصعيد في منافسات المنطقة الرمادية.
وغالباً ما يتمّ تحقيق الميّزة من خلال إحراز مكاسب تدريجية وتراكمية بدلاً من اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة، وعليه فهل تلوح بعض الحلول لبعض الخلافات الإقليمية ضمن استراتيجية المنطقة الرمادية!