كشف السباق الرئاسي عن انقسامات بين «الديمقراطيين» حول أفكار تقدمية من قبيل ضريبة الثروة، و«الاتفاق الجديد الأخضر»، و«ميديكير للجميع». والنقاشات حول هذه السياسات التي كثيراً ما تتسم بالقوة والاحتدام ليست مهمة فقط لأنها تعيد تشكيل ملامح الاقتصاد الأميركي، ولكن أيضا لأنها تعكس اختلافا أكبر وأكثر جوهرية حول الرأسمالية نفسها.
السيناتور بيرني ساندرز (المستقل عن ولاية فيرمونت) وإليزابيث وارن (الديمقراطية عن ولاية ماساتشوسيتس) يعتقدان أن نظام الرأسمالية الأميركي اختل بشكل جوهري (ساندرز يعتقد ذلك لدرجة أنه يعرّف نفسه كاشتراكي ديمقراطي) وينظران إلى فشلها على أنه إحدى القوى التي أوصلت الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولكن نائب الرئيس السابق جو بايدن يعبّر عن رأي مخالف: ففي حفل لجمع التبرعات أقيم في أكتوبر الماضي بمنطقة سيليكون فالي، لم يصف ترامب بأنه منتوج للرأسمالية الأميركية، وإنما بأنه تهديد لها إذ قال: «إنك لست في حاجة إلى نوع من الأجوبة الاشتراكية الراديكالية على أي من هذه الأمور، بل عليك فقط أن تجعل الرأسمالية تعمل مثلما يفترض بها أن تعمل».
الأسبوع الماضي، وفي إطار سلسلة «نقاشات مونك» في تورونتو، أتيحت لي فرصة التناقش حول الرأسمالية والبدائل الممكنة لها إلى جانب عالم الاقتصاد اليوناني «يانيس فاروفاكيس»، والرئيس السابق لـ«معهد المشروع الأميركي» آرثر سي. بروكس، وكاتب العمود بصحيفة «نيويورك تايمز» ديفيد بروكس. وحاججتُ بأن النظام الأميركي اختل وتعطل بثلاث طرق.
أولا، إنه يغذي انعدام المساواة والتفاوت الاجتماعي المتطرف. ذلك أن أربعة عقود من ركود الأجور وتدفق الثروة نحو الأعلى في الولايات المتحدة وسّعا الهوة الحالية من حيث الثروة وتفاوتات أخرى تتعلق بالاختلافات العرقية والنوعية والجغرافية. كما أن مكاسب الإنتاجية تذهب إلى طبقة المستثمرين، وليس إلى العمال، والصعود الاجتماعي تراجع. وفي مقاله الأخير، يرى «ديفيد بروكس» أن «الرأسمالية جلبت أكبر انخفاض للفقر في التاريخ البشري». ولكن منظمة «أوكسفام الدولية» تبرز واقعاً أكثر تعقيداً: أنه إذا كان ثمة انخفاض مهم في الفقر المدقع، فإن مئات الملايين من الأشخاص الآخرين كان يمكن أن يُنتشلوا من الفقر لولا التفاوتات المتطرفة داخل البلدان وعبرها.
ثانياً، الرأسمالية تُضعف الديمقراطية. ففي عهد منظمة «مواطنون متحدون»، انفجرت المبالغ المالية في السياسة، ما أدى إلى منتخَبين من كلا الحزبين أكثر ارتهانا للمانحين الأغنياء – ومصالح شركاتهم – من أي وقت مضى. كما أن تركز الشركات أخذ يقلّص المنافسةَ ويجعل كلا من العمال والمستهلكين عاجزين وبلا قوة إزاء صعود حكم طبقة الأغنياء. ثم إن كل هذا يحدث بينما تتآمر قوى الشركات الخاصة وشركات التكنولوجيا الكبرى من أجل القضاء على الصحافة المحلية والمستقلة التي تُعد أساسية للحفاظ على مجتمع ديمقراطي.
وثالثاً، الرأسمالية تدمر الطبيعة. بينما يعمل أعضاء الجماعات الضاغطة العاملة لحساب الشركات على تفكيك الجهاز التنظيمي، تقوم الشركات التي يمثّلونها بإلحاق الأذى ببيئتنا وصحتنا ومستقبلنا الجماعي على نحو لا رجعة فيه، إذ سعيا وراء الأرباح بأي ثمن، تواصل الشركات إتلاف الأراضي العامة، وتدمير الأنظمة البيئية، وتسميم المياه التي نشربها والهواء الذي نتنفسه. وفي الأثناء، ورغم أن أميركا الشركات أخذت ترفع صوتها أكثر للتنبيه إلى أهمية الاستدامة ومخاطر تغير المناخ، إلا أنها تعارض التغييرات الدراماتيكية للسياسات اللازمة لتجنب الكارثة.
المشهد السياسي الأميركي أطلق أخيراً نقاشاً تأخر كثيراً حول كيفية الرد على هذه الاتجاهات. ولا شك أن الكثير من الأفكار التي تناقَش في السباق الرئاسي تمثّل جزءاً من الحل. ولكن إدخال بعض التعديلات على الاقتصاد لن يكون كافيا، بل نحتاج إلى إعادة تصميم بنيوية للمؤسسات والوظائف الأساسية، كما أننا نحتاج لنظام جديد من أجل خدمة المصلحة العامة بشكل أحسن.
لقد كتب «ديفيد بروكس» أن إحدى نقاط قوة الرأسمالية هي «خلق عملية لمساعدة الناس على فهم الأشياء». وحول هذه النقطة نحن متفقان. ولكنني تعلمتُ خلال أربعة عقود من مراقبة الاقتصاد والكتابة عنه أن الرأسمالية كما نعرفها غير ناجحة. ولهذا من أجل نجاتنا وبقائنا الاقتصادي والديمقراطي والبيئي، آن الأوان لنجرّب شيئا أحسن!
*كاتبة وصحافية أميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلوميبرج نيوز سيرفس»