مثلما أشرنا في مقالة سابقة، فقد توالت عمليات طرح جزء من ملكية شركات النفط في المنطقة للاكتتاب العامة، فبعد «أرامكو» السعودية، جاء دور «شركة نفط عُمان»، وبأسرع من التوقعات، حيث أعلنت الشركة عن نيتها لطرح نسبة كبيرة تتراوح ما بين 20-25% من ملكيتها للاكتتاب العام، في تطور ملفت يشير إلى التغيرات السريعة التي تنال المشهد النفطي الخليجي.
بالتأكيد، هناك عوامل عديدة تقف وراء هذا التحول، إلا أن أهمها على الإطلاق يختص بالتطور الطبيعي للاقتصادات الخليجية، والتي تسير حثيثاً نحو إيجاد كيانات اقتصادية تسودها علاقات إنتاج تختلف عن ما سبقها خلال العقود الماضية، والتي هيمنت فيه الدولة على أهم قطاع اقتصادي، إذ لا يمكن الاستمرار في هذا النهج في ظل النمو الكبير للقطاع الخاص الذي يرى أن دوره التنموي لا يتناسب وقدراته المالية، فطبيعة الأنظمة الاقتصادية الحديثة تتطلب دوراً رئيسياً لهذا القطاع إلى جانب الدور المهم للدولة.
بدليل أنه وتزامناً مع عملية الاكتتاب، طرحت «أرامكو» برنامجاً متكاملاً لكيفية تسخير عوائد الاكتتاب البالغة 29.4 مليار دولار وفق «الأهلي كبيتال»، وذلك لدعم النمو وإقامة المشاريع الهادفة إلى إيجاد اقتصاد أكثر تنوعاً وتوفير المزيد من الوظائف، في حين اكتفت شركة نفط عمان حتى الآن بالإعلان عن عملية الطرح دون أن ترفقه ببرنامج مماثل لبرنامج «أرامكو»، إذ من المهم أن يتم ذلك في فترة لاحقه.
هنا لا بد من التنويه إلى أن هذه الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها كل من السعودية وعُمان، والتي نتوقع أن تقدم عليها بقية دول مجلس التعاون الخليجي لا بد وأن ترفق ببرامج تنموية للاستفادة من عوائد الاكتتاب، وإلا، فإن مثل هذه الخطوات ستشكل – لا سمح الله – مأزقاً مالياً سيصبح من الصعب تلافي تداعياته.
وضمن هذه المحاذير، فإن عوائد الاكتتابات لا يمكن بأي وجه من الوجوه أن تستخدم في تمويل عجز الموازنة أو الحساب الجاري أو أية عجوزات أخرى أو إنفاق جاري والتي تعاني منه بعض دول المجلس، إذ يتحتم من بين أمور أخرى إصدار قوانين تمنع استخدام عوائد الاكتتاب لهذه الأغراض، والتي يجب اقتصار توظيفها على تنفيذ الاستثمار في مشاريع جديدة لتحقيق أهداف تنموية محددة ضمن برامج متخصصة.
والحال، فإن القضايا السابقة المتعلقة بالعجوزات بحاجة لحلول، إلا أن هذه الحلول يفضل أن تكون بعيدة كل البعد عن عوائد الاكتتاب، والتي تعتبر حلولا سهلة، إلا أنها مكلفة جداً على المدى الطويل، ولا تساهم في تنفيذ البرامج التنموية الخاصة بتنمية الثروة والتنوع الاقتصادي وتوفير الوظائف.
في نفس الوقت، فان العوائد الكبيرة المتوقع تحصيلها من هذا التوجه يمكن إدارتها بصورة مختلفة من الناحيتين المالية والاستثمارية، خصوصاً وأن الدولة ستفقد جزءا من الأرباح السنوية لشركاتها النفطية، والتي ستوزع على المساهمين الجدد، مما يعني أن العائدات الجديدة يجب أن توفر مصادر دخل أعلى من تلك الأرباح التي ستوزع على المساهمين، وإلا، فإنه لا جدوى من عملية الاكتتاب، حيث يتطلب الأمر الكثير من الشفافية والوضوح في كيفية إدارة هذه العوائد ونشر تقارير سنوية موثقة حول بياناتها المالية التي ستبين الكيفية التي تم بها التوظيف.
لذلك، فان الفرق بين هذين النهجين، أي تمويل العجوزات والحسابات الجارية ونهج توظيف العوائد لإيجاد بدائل اقتصادية منتجة تساهم في رفد النمو والوظائف، هي التي ستحدد مدى إمكانية نجاح هذا التوجه في هذا البلد الخليجي أو ذاك، خصوصاً وأن النهج الأول سيساهم في حل مشكلة العجوزات بصورة مؤقتة فقط، إلا أنه سيفقد الدولة أحد أهم مواردها، ويساهم على المدى البعيد في تعميق أزمة العجوزات، في حين أن النهج الآخر يمثل استمرارية تحقيق عوائد مجزية للدولة وللمستثمرين من خلال الأرباح وللمواطنين من خلال الوظائف الجديدة، وهو المطلوب في مثل هذا التوجه التنموي الذي يعبر عن المرحلة الحالية من تطور الاقتصادات الخليجية.
*خبير ومستشار اقتصادي