في أبوظبي، عاصمة التسامح، التأم الملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم الذي اختار هذه السنة موضوع دور الأديان في تعزيز التسامح، وتبنى ميثاقاً جديداً لحلف الفضول وقّعت عليه كبريات القيادات الدينية من مكونات العائلة الإبراهيمية وجمع كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية.
لقد اعتبر العلامة الشيخ عبد الله بن بية، رئيس مجلس الإفتاء في دولة الإمارات العربية المتحدة ورئيس منتدى تعزيز السلم، أن مقاربة التسامح تقتضي اليوم في هذه المرحلة الحرجة من أوضاع العالم المتأزمة، استعادة مبادرة حلف الفضول الذي وضعه بعض سادة العرب قبل الإسلام وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة باعتباره يكرس فضائل التعايش والتضامن والعدالة على أساس المشترك الإنساني. وإذا كانت هذه القيم هي أساس المدونة الحقوقية اليوم، إلا أنها تقتضي بنية قانونية ملزمة هي أساس الميثاق الهام الذي صدر عن المنتدى هذه السنة.
لقد بدا لي من خلال الرجوع إلى أدبيات التسامح في الفكر الغربي الحديث أن هذا المفهوم المركزي في الثقافة الأوربية منذ عصر التنوير، قد طرح منذ البداية في أفق إشكالي مداره العلاقة المتوترة بين مبدأ الذاتية الذي هو المعيار المرجعي للعصور الحديثة، ومبدأ الائتلاف والتعايش المشترك الذي لا يمكن النظر إليه بصفته طبيعياً أو تلقائياً بل هو حالة توافقية مصطنعة. ومن هنا الإشكالية الأصلية التي واكبت نشأة الفكر السياسي والاجتماعي الحديث حول شرعية الحالة الاجتماعية المنظمة في وضعية إنسانية أساسها حقوق الذاتية الفردية المطلقة. فهل يمكن التفكير في التسامح من منطلق الذاتية المتمحورة حول نفسها، ما دام أفق الاختلاف مفتوحاً بدون قيود ولا سبيل لتحديد سقف مرجعي له، في حين أن الضبط القانوني المحدود لأنماط العيش المتجاورة لا يمكن أن يتحول إلى تسامح حقيقي لانتفاء المرجعيات القيمية أو العقدية المشتركة؟
لتجاوز هذا الإشكال بلورت الفلسفة المعاصرة منذ هيغل مفهوم الاعتراف الذي أريد له تقديم صياغة مقبولة للتوافق الإرادي بين ذاتيات مستقلة حرة.
ولقد أفضت هذه المحاولات لضبط الاعتراف إلى ثلاث مناح أساسية هي: المنحى التواصلي الذي يفترض قدرة النقاش البرهاني العمومي الحر على التوصل إلى توافقات قيمية جامعة (يورغن هابرماس) دون اللجوء إلى المطلقات الميتافيزيقية أو السقوط في فخ النسبية السياقية العرضية، والمنحى التأويلي الذي يدمج الغيرية في تصور وتشكل الذاتية من خلال منعرجات الفعل الإنساني تعبيراً وممارسة وسرداً (بول ريكور)، والمنحى النقدي الاجتماعي الذي ينظر لدوائر الاعتراف في مستوياتها الثلاثة: العاطفية والقانونية والثقافية (اكسل هونت في تطويره لهيغل).
ما نريد أن نخلص إليه هو أن مفهوم التعارف الذي أريد له أن يكون مخرجاً من الأزمة العميقة التي ولّدها براديغم الذاتية ظل على الدوام مصطدماً بالمشكل الذي لابد أن تقود إليه مقاربة فردية حميمية للذات في شفافيتها المباشرة الواعية، ولئن كانت المقاربات التأويلية والتداولية أدخلت تحويرات هامة على النظرية الذاتية الكلاسيكية، إلا أن مطلب إدماج الغيرية يظل غير محسوم إلى حد القول مع لفيناس إن المشكل المطروح في الفكر الغربي ليس نسيان الوجود، كما كان يقول هايدغر، بل نسيان الآخر.
إن ميثاق الفضول الجديد الذي صدر عن منتدى تعزيز السلم ينطلق من مفهوم التعارف القرآني بديلا عن مفهوم الاعتراف الذي أشرنا إلى المأزق الذي يقود إليه، بتكريس المفهوم الاختلافي الجوهري للعلاقات بين البشر، أفراداً وجماعات، في مقابل التصور الهووي التماثلي أي النظر للآخر من منطلق مركزية الذات المتمحورة حول نفسها. التعارف يقتضي الحفاظ على تمايز واختلاف الهويات، لكنه يتجاوز مجرد الاعتراف الذي يعني القبول الاضطراري والتعايش القسري. إنه يحمل معاني التضامن، لكنه لا يؤسس العلاقة التضامنية على مجرد رابطة المواطنة القانونية أو الهوية القومية العضوية ولا حتى الهوية العقدية الخصوصية، بل يؤسسها على قيم إنسانية كونية هي قيم الفضول في أبعادها الأخلاقية الرحبة وقيم «صحيفة المدينة» التي وضعت إطار التضامن التشاركي في ما وراء الاختلافات الدينية والقبلية.
وفي الوقت الذي ظهرت شواهد عديدة في العالم على ارتفاع صوت الكراهية والتطرف، ونظر العديدون إلى الإسلام بصفته «مشكلا» كونياً، نجح منتدى تعزيز السلم في جمع الرموز الدينية الفاعلة من كل الملل والمعتقدات تحت شعار التسامح والسلم والتضامن.
إن هذه الصورة الناصعة التي قدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال رعايتها للمنتدى، وغيره من المبادرات المتميزة المماثلة، هي التعبير الحقيقي عن المضمون القيمي والحضاري للإسلام التي أرادت طمسها الدعوات المتطرفة والحركات المتشددة التي فجرت تماسك المجتمعات المسلمة وعمقت الشرخ بين المسلمين وبقية العالم.