يُقال إن عصر الروبوتات آتٍ لا محالة، وفي سبيله أيضاً إلى التطوير ارتباطاً بالتكنولوجيا وتقدم الحضارة التقنية، ويُقال إن الروبوتات ستهيمن على الكثير من القطاعات المدنية والعسكرية والآلية، إلى الدرجة التي قد يحل فيها الروبوت محل الإنسان: أي مراحل ما بعد الإنسان، كل ذلك محتمل، لكن الروبوت مستمد أصلاً كفكرة ودور من علاقات البشر في ما بينهم، وعلاقتهم بالطبيعة والحيوان والأشياء، وسائر المخلوقات، أي فكرة الخضوع المطلق يُجسدها الروبوت المبرمج الموجه المصوّب في خدمة الحاجات والمتطلبات والأهداف، إنها فكرة الخضوع هذه انتقلت من الإنسان في علاقاته أولاً بالمُسلّمات، ثم من ظواهر العبودية التي عرفتها البشرية في اليونان القديمة، ثم روما، ثم أميركا، وسواها.
هذا ما كان شائعاً في بلاد الإغريق، وحتى في زمنها الذهبي مع بيريكليس وبلاد الرومان وبلاد العم سام (حتى الآن)، وهذا يعني نزع الصفة الإنسانية عن هذا الروبوت البشري، والتعامل معه وكأنه مجرد أداة، أو مجرد طاقة تُستغل أو قوة تُمتلك، فهو لا يمتلك نفسه ولا مصيره ولا تاريخه، مغسول الدماغ والذاكرة والمخيلة، أي مجرد صنيعة تقنية في مؤسساتٍ استعبادية، أوليست كل هذه المواصفات تتصل بالروبوتات الحديثة: من إحلال العبد محل السيد في المهام، إلى إحلال الروبوتات محل العامل والفلاح، (أو باللغة الإيديولوجية محل البروليتارية).
لكن هل تقتصر صناعة الروبوتات على طبقات أو فئات معينة في التاريخ والديموغرافيا والجغرافيا؟
لا! ففكرة العبد أو الاستعباد أو الروبوتات البشرية عرفناها في مجمل العصور وفي المجالات السياسية والإيديولوحية والاستعمارية والاجتماعية والدينية والفكرية والفلسفية، على هذا الأساس، كيف نفسر الخضوع الطوعي أو اختبار الكائن الحر أحياناً العبودية؟ أو الانحياز إلى إمحاء الفكر والرأي في المجتمعات التوتاليتارية، مثلاً النظام السوفييتي الذي قولب الشعب ذاكرةً ومخيلةً وأجساماً، ليُلغي كل الاختلافات فيه: فالشعب يجب أن يكون كما يُهندسه ويجبُله قائده: فكرةً واحدة، خضوعاً مطلقاً واحداً، تقاليد مقننة، طرق عيش أحادية، أي تحويل الناس مجرد أدوات تحرَّك، بإرادة النظام أو الزعيم أو المُرشد.
وكيف نفسر مثلاً أيضاً، انجراف الشعب الألماني العريق، بحضارته وثقافته وشعرائه وكتابه وفلاسفته، طوعاً للمشروع النازي المدمر؟ أوليس هذا ما حصل أيضاً في بعض الأنظمة الاستبدادية؟
ففكرة الشعب الواحد كما تُرسَم أو تُفرَض، تؤدي إلى «الروبوتية» بمختلف أشكال خنوعها؛ أي بالمعنى الإيديولوجي التوتاليتاري؛ أي القبول دون اعتراض أو تمنع.. لكن كيف نُفسر أيضاً، أن يختار الإنسان أن يكون مجرد روبوت بإرادته ووعيه وثقافته، ويميل بكل قوته إلى التماهي بالنظام الفاشي، بل كيف نفسر أن يقبل الإنسان محو وجوده وفكره ورأيه واستقلاله الفردي، أو الجماعي الوطني لأهدافٍ مذهبية أو إثنية أو عرقية... كيف يرفض حرية وجوده، بأن ينصهر كلياً في مثل هذه «القطعانيات» المذهبية والسياسية أو التعصب أو حتى الإرهاب، ليصير عنده الآخر المختلف أيضاً مجرد روبوت يقضي عليه، وكأنه مجرد شيء أو مجرد اسم أو لون أو دين أو فكرة... أي مسألة الـ «نحن» والـ «هُم»، وهي جوهر الروبوتية ومُحركه... كيف يفقد الإنسان مشاعره ووجوده، فيستحيل عليه التمرد أو الانتفاض، أو حتى مجرد الاحتجاج؟ فالروبوتات «الحاكمة»، التي تحافظ على سلطتها الآلية (بالسلاح والقمع)، تخلق هي روبوتاتها البشرية، لكي تسود بها وتستمر، من دون أن ننسى عمليات غسل الأدمغة والشعبوية، واختلاق حقائق لا علاقة لها بالواقع.
يخترعون الروبوت اليوم؟ نعم!، ليحل محل الإنسان؟ نعم! لكن الفارق أن الإنسان هو إنسان، وعندما تضيق به الدنيا يتمرّد على صنّاعه كما فعل فرانكنشتاين بصانعه، أوليس هذا ما يُفسر التهاب الشوارع الشبابية التغييرية في عالمنا اليوم؟
*كاتب لبناني