تسود العالم تغيرات سريعة في كافة مناحي الحياة تأتي كرد فعل طبيعي على التقدم المتسارع في مجالات العلوم والتقنيات الحديثة، فالتغيرات في البنية الاقتصادية للمجتمعات ترافقها تغيرات في البنى الاجتماعية والسياسية، مما يتطلب ضرورة التوافق بين إجمالي هذه التطورات لتفادي إمكانية الصدام بين مكونات المجتمع، حيث تبدو هذه التناقضات أكثر بروزاً في المجتمعات المتقدمة، وذلك نتيجة للتقدم الذي تحقق على أكثر من مستوى.
من بين الظواهر الكثيرة المعبرة عن هذه التحولات يمكن الإشارة إلى أكثرها إثارة واستمرارا، أي تلك الخاصة بحركة السترات الصفر في فرنسا وما أعقبها من احتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد، والتي طالت كافة مكونات المجتمع الفرنسي، مما يؤكد أن العلاقات الاجتماعية وارتباط المصالح تتم إعادة هيكلتها بناء على التحولات الاقتصادية والعلمية والتي تركت آثاراً عميقة في بنية هذه المجتمعات.
ولنأخذ على سبيل المثال الاحتجاجات الخاصة بنية الحكومة الفرنسية إصلاح نظام التقاعد، والتي وحدت كافة فئات المجتمع، إذ يعمل في فرنسا حالياً 42 نظاماً ومؤسسة للتقاعد، تتفاوت طبيعة أعمالها وفقاً لنظام وقدرات كل منها، إلا أن هذه الأنظمة والتي يعتمد بعضها على الدعم الحكومي تعاني من مصاعب وعجوزات تعيق تلبيتها للالتزامات المترتبة عليها تجاه المتقاعدين، مما دفع بحكومة الرئيس إيمانويل ماكرون لإدخال إصلاحات على حساب المتقاعدين، وهو ما لاقى رفضاً عاماً وتسبب في احتجاجات لا زالت مستمرة.
أصل المشكلة يكمن في التغيرات العلمية والتقنية التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الماضية، فالتقدم في الخدمات الصحية على سبيل المثال أدى إلى إطالة متوسط عمر الإنسان في الدول المتقدمة ليتجاوز 80 عاما، وهو في زيادة مطردة مع تحقيق المزيد من الاكتشافات والإنجازات الطبية، حيث عمدت بعض الدول الأوروبية إلى رفع سن التقاعد من 60 إلى 65 سنة للتخفيف من حدة الفجوة المالية التي تعاني منها صناديق التقاعد.
في المقابل أدت ثورة تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي إلى تقلص فرص العمل والاعتماد بصورة متزايدة على الروبوت في إنجاز الأعمال، مما أوجد فجوة أخرى بين نسبة العاملين والمتقاعدين، فالروبوت لا يساهم في دفع حصة من «دخله» في صندوق التقاعد، وإنما يذهب الدخل الناجم عن قوة عملة بالكامل إلى المستثمرين أو أرباب العمل، وهو ما يمكن أن يساهم في تعميق الأزمات المالية لصناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية.
هذا التناقض الناجم عن التحولات التقنية والعلمية، والذي سيتعمق في السنوات القليلة القادمة يشير إلى أن التصادم بين طرفي هذه المعادلة أمر لا مفر منه، حيث تحاول بعض البلدان الاسكندنافية تلافي ذلك من خلال تعديل نظام الضرائب والإعانات الاجتماعية، حيث حققت بعض التقدم في هذا المجال، كفنلندا على سبيل المثال.
هذا في شمال القارة الأوروبية، أما في وسطها وجنوبها، فالأمر مختلف، فالمستثمرون وأرباب العمل لم يقدموا أي تنازلات تستجيب ومتطلبات التحولات في مجالات العلوم والتقنيات، مما أدى إلى تضخم أرباح وثروات شركاتهم، في مقابل تدهور المستويات المعيشية ونقص قدرات صناديق التقاعد.
ذلك يشير إلى إحدى أشكال تناقضات المجتمعات الحديثة، مما يتطلب القيام بمساومات بين أطراف العملية الإنتاجية تتناسب وهذه التحولات، وذلك حفاظاً على السلم الاجتماعي، وضمان استمرار تطور بنية المجتمع، بما يتلاءم والابتكارات العلمية وما تحدثه من تغيرات بنيوية لإيجاد الانسجام بين هذين المتغيرين، إذ أن ذلك يتطلب تفهما وتنازلات من طرفي العملية الإنتاجية مثيلة للمساومات التي حفظت بنية المجتمع وتقدمه بعد التحولات الصناعية الكبيرة قبل أكثر من قرنين من الزمن.
هذا هو الحل الأفضل لأحد التناقضات المستجدة، إذ أن هناك تناقضات أخرى تطال أكثر من مجال، حيث ستتبين بعض ملامحها مع نهاية الاحتجاجات الفرنسية الحالية الخاصة بإصلاح نظام التقاعد، وسيتضح مدى استعداد الطرفين للوصل لحلول توافقية، ستجد لها انعكاسات في بقية بلدان العالم.
*مستشار وخبير اقتصادي