لا جدال في حقيقة أن بوريس جونسون حقق نصراً مذهلاً ولم يكن متوقعاً للكثيرين، في الانتخابات العامة البريطانية في يوم بارد وممطر في الثاني عشر من شهر ديسمبر الجاري. ومن الواضح أنه نتيجة لذلك الفوز الانتخابي، أصبحت الآن لدى حزب المحافظين الحاكم أغلبية ثمانين مقعداً في البرلمان، التي يحتاجها لمنح حكومتها الثقة، ومن المحتمل جداً أن يبقى الحزب في السلطة لخمس سنوات على الأقل قبل إجراء انتخابات عامة أخرى. والاعتقاد السائد الآن هو أن جونسون والحزب إنما أحرزا ذلك الفوز بسبب الـ«بي بي سي»، ليس هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية، وإنما الثلاثي بوريس/ بريكست/ كوربن.
وكانت سلف رئيس الوزراء جونسون، وهي تيريزا ماي، قد حاولت في شهر يونيو 2017 تعزيز أغلبيتها في مجلس العموم عبر الدعوة إلى انتخابات مبكرة. لكنها أدارت حملتها الانتخابية على نحو سيئ فخسر حزبها (المحافظون) أغلبيته البرلمانية ومن ثم فقد اضطر للاعتماد على حزب «الوحدويين الديمقراطيين»، وهو حزب أيرلندي صغير، من أجل البقاء في السلطة.
لكن الانتخابات الأخيرة أظهرت مدى تفوق جونسون في محطات الحملة الانتخابية، حيث ركّز على الحاجة إلى الخروج من الطريق المسدود بشأن «بريكست» الذي أصاب الخلافُ حوله البلدَ بالشلل منذ عام 2016. ووعد الزعيم المحافظ بأنه إذا مُنح أغلبية كافية في البرلمان، فإنه سيُخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون تأخر أو تردد. كما وعد بالتركيز على القضايا الاجتماعية المحورية التي تشغل بال الشعب البريطاني برمته، لاسيما جهاز الرعاية الصحية، والسكن، والهجرة، ونظام العدالة الجنائية. وخلافاً لخصومه في «حزب العمال» بقيادة جيريمي كوربن، فإنه لم يقدم وعوداً تنطوي على قدر كبير من المبالغة بشأن مزايا جديدة للجميع، وهي وعود أجمل وأكبر من أن تكون حقيقية.
بيد أن المشكلة الحقيقية بالنسبة لحزب العمال تكمن في زعيمه كوربن نفسه، اليساري القادم من أقصى اليسار الذي يدعم برنامجاً لإعادة تأميم قطاعات محورية مثل الماء والسكك الحديدية والغاز والكهرباء. ذلك أن كوربن لم يكن مستعداً لتبني موقف واضح وقوي بشأن بريكست، بهذه الطريقة أو تلك، سواء لجهة المطالبة بالخروج النهائي (كما هو موقف جونسون) أم لجهة إلغاء الاستفتاء السابق والدعوة إلى تنظيم استفتاء جديد (كما هو موقف الحزب الاسكتلندي). وكان يُنظر إلى كوربن من قبل الكثيرين في حزبه على أنه بكل بساطة ليس أهلاً لأن يكون رئيساً لحكومة بريطانيا.
غير أن السبب الرئيسي للهزيمة التي مني بها حزب العمال وحصوله على أسوأ نتيجة انتخابية له منذ عام 1935، هو أنه لم يعد يحظى بدعم ناخبي طبقة العمال التقليدية في المدن الوسطى والشمالية لإنجلترا، أو ما يسمى بـ«الجدار الأحمر»، وهي الطبقة التي كان يمكن الاعتماد عليها في الماضي من أجل التصويت لصالح حزب العمال، بغض النظر عن مرشحيه للانتخابات. وعلاوة على ذلك، فإن كل مرشحي حزب العمال تقريباً تعرضوا للإقصاء في اسكتلندا، مما منح الحزب الوطني الاسكتلندي أغلبية ساحقة في البرلمان الاسكتلندي.
وهناك موضوعان مركزيان بالنسبة لكلا الحزبين الآن، هما: متى سيتم استبدال كوربن في زعامة «العمال»؟ وهل سيرحل معه أيضاً كل مستشاريه المتطرفين؟ ومتى سيستطيع جونسون التفاوض حول الخطوات النهائية لبريكست مع الاتحاد الأوروبي حتى يستطيع تمريرها عبر البرلمان الجديد قبل نهاية شهر يناير المقبل؟ الواقع أنه إلى أن يتم استبدال كوربن، سيظل حزب العمال غير قادر على مواجهة جونسون في البرلمان. وبالنسبة لجونسون، فإن الامتياز العظيم لامتلاك مثل هذه الأغلبية البرلمانية الكبيرة هو أنه لم يعد مضطراً الآن لاتباع نصيحة زملائه اليمينيين المتشددين الذين يدعون إلى مغادرة الاتحاد الأوروبي على نحو أسرع مما يرغب فيه المعتدلون في حزب المحافظين والمعارضة معاً. وبعبارة أخرى، فقد بات باستطاعة جونسون الآن إبداء قدر أكبر من الليونة والمرونة مع الاتحاد الأوروبي بشأن عدد من المواضيع التي تتطلب بعض التنازلات، إن كان يراد لبريكست ألا تكون «صلبة» حتى لا تنكسر.
وعندما يتم التوصل لاتفاق بشأن بريكست، سيبقى التفاوض الصعب من أجل إقامة علاقات تجارية جديدة مع الاتحاد الأوروبي، الذي يظل الشريك التجاري الأول لبريطانيا. أما المشكلة الأخرى في المرحلة المقبلة، فتتعلق بمطلب الحزب الوطني الاسكتلندي المتمثل في تنظيم استفتاء آخر حول ما إن كان ينبغي لاسكتلندا مغادرة المملكة المتحدة والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كدولة مستقلة. هذا الجهد سيقاومه جونسون بكل قوة ولن يُحل قريباً، لكن إمكانية حدوث أزمة دستورية تظل مرتفعة في حال لم يتسن التوصل لأي توافق في الآجال المنظورة.
*مدير البرامج الاستراتيجية في مركز «ناشونال انترست»- واشنطن