لا يعبر عن التسامح تعبيراً صادقاً أميناً أكثر من التجارب الذاتية، فكثير من الكتب النظرية التي تم تأليفها عن هذه القيمة الأخلاقية والفلسفية والسياسية العظيمة، كانت مجرد «ينبغيات» أو «تفكير بالتمني» في عالم يصطلي بنار التعصب والكراهية والأحادية والاستعلاء والعنصرية. ورغم أهمية هذه الكتب، بالطبع، في وضع نقطة مركزية ننطلق منها، أو رسم إطار نُحيل إليه في معرفة المسائل المرتبطة بالتكيف وقبول الآخر والتوافق بشأنه ومحاورته، وصولاً إلى التفاهم العميق معه، فإنها تظل طيلة الوقت رؤى محلقة في الفراغ، لا يمكن أن تسكن على الأرض وتدب، ونطمئن إلى إمكانية تحقيقها بالفعل إلا بممارسات واقعية، تقول لنا بوضوح وجلاء إن هناك من لديه قدرة على عبور الصعوبات والمفازات والحضارات، وتجاوز الصور النمطية والتصورات المشوهة ليبني جسوراً حقيقية من الفهم والقبول والتعايش.
واحدة من هذه التجارب القديمة العميقة الثرية، هي التي خطها بنان الكاتبة والمترجمة الإنجليزية «ليدي دوف جوردون»، التي جاءت إلى مصر عام 1862 للاستشفاء من داء الدرن، وصاغتها في رسائل بعثت بها إلى زوجها وأمها وابنتها، حتى وافتها المنية ودفنت في مصر عام 1869، وهي رسائل كانت من الأهمية والثراء والدلالة وعظمة الدور والوظيفة، بما لفت انتباه الأديب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد المجيد كي يعطيها من وقته، رغم أن ذهنه ووجدانه مزدحم بكثير من الروايات والقصص القصيرة التي هي بحاجة ماسة إلى الكتابة، فيقوم بترجمتها في كتاب أقبل عليه القراء إقبالاً لافتاً، وكأن أهل الشرق يحنون إلى إنصاف من أهل الغرب، حتى لو كان نصاً يعود إلى قبل مئة وخمسين عاماً.
إنها رسائل نادرة في وضع قنطرة، ولو رقيقة التكوين والتعبيد، بين الشرق والغرب، وسط التعبئة الحمراء التي لم تكف عن قرع طبول الحرب منذ حرب الفرنجة (الحروب الصليبية)، وإلى الآن، وكذلك وسط الرؤى المنغلقة التي ترى أن «الغرب غرب، والشرق شرق، ولن يلتقيا أبداً»، لاسيما أنها لم تكن رسائل من جاسوس أو محارب، أو حتى مستشرق جاء كرأس حربة لمشروع استعماري، أو حتى بدافع الدراسة والعلم ومعرفة الآخر، إنما هي انفعال أديبة بالبشر والمكان والظروف والأحوال والطقوس وكل تفاصيل الحياة اليومية لأناس من لحم ودم، مصاغة في ثوب أدبي بديع، تعبر عن كم كانت هي ممتنة في سنواتها الأخيرة لمصريين برهنوا لها على أن كل الصور النمطية، التي كانت سائدة في بلادها قبل قدومها إلى مصر، لم تكن سوى محض كذب وافتراء.
قبل ثلاثة عشر عاماً من احتلال بلادها لمصر، كانت «ليدي» تلاحق ذويها بكلمات ليس لها علاقة أبداً بالدم والرصاص والاستغلال الاقتصادي، إنما بما بين البشر من أشواق وآمال وتطلعات مشتركة، وكانت قبل الكلمات تتحدث في كل من حولها من أهل صعيد مصر، بما جعلهم يقبلون عليها إقبالاً شديداً، فيبتهلون إلى الله في صلواتهم وفي موالد الأولياء، أن يمن عليها بالشفاء، وهي التي لقبوها بـ«البشوشة» و«نور على نور» و«الست» و«الشيخة»، ورأوا أن فيها خيراً أكبر بكثير من الشر الذي ولدته إحن وأحقاد زكّاها المتحمسون للصراع بين الأديان والثقافات.
لقد لمس إبراهيم عبد المجيد، وهو أحد الساردين الكبار في الأدب العربي المعاصر، كيف كانت صاحبة هذه الرسائل ترى الحياة رحبة وسيعة وأنها تستحق أن تعاش ما دام فيها طيبون، فرغم أن صاحبة الرسائل كانت تذوي مع مطلع شمس كل يوم جديد، فإنها انفعلت مع تفاصيل العيش في صعيد مصر، وطوعت لغتها لتخدم تلقائيتها وتدفقها، الممزوجة فيه الشفاهية بالكتابية، والحضور بالغياب، فصنعت نصاً يتخطى كل السدود والحدود المقامة عبثاً بين الناس في المشرق والمغرب، ويكسر كل القيود التي تفرض على كاتبة غربية حرة ضربت كل الأكاذيب التي رسموها على سنابك الخيل وجنازير الدبابات، ولم تكن ضربتها الواهنة هذه سوى رسائل ملأت كتاباً يربو على خمسمائة صفحة.
*مفكر وروائي مصري.