من الظواهر الفريدة أن يجمع القطار بين شخصيتين متجولتين: الواعظ الديني والبائع المتجول، حيث يمر الوعاظ بملابسهم التقليدية، مع النظارة السوداء على العينين والسبحة في اليد. وهذا رغم أن الوعظ الديني متوفر في المساجد والقنوات الفضائية والأحاديث الدينية، وحتى في التعازي والأفراح. لكن بعض السلفيين ما زالوا يحبون سماعه. والغالب أن الواعظ نفسه لا يعتبر الوعظ غير تجارة راقية، أفضل من السميط واللب والفول السوداني وحب العزيز وحلوى السيد البدوي. ولعل ذلك ما جعل الجمهور الشعبي يقول: «خذ من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله». فالدين بالنسبة للواعظ قول باللسان وليس عملا بالجوارح. لا يهدف الخطاب الوعظي إلى تغيير الواقع نحو الأفضل، بل نرى الشحاذ المتجول بين العربات مكتفياً بالدعاء إلى الله لتخفيف الكرب، وحل الأزمات، والنجاة من عذاب النار، ودخول الجنة.. فيتجاوب معه المحتاجون والخائفون وأسرى مشاعر «الاغتراب الديني».
ويتبع الشحاذون المتجولون الوعاظ الدينيين عربةً بعد عربة، وليس في نفس العربة حتى لا يتفتت الركاب بين الدين والرزق. وهم غالباً في قطارات المراكز حتى يستطيعوا تغيير القطار بسرعة دون انتظار، ونادراً ما يأخذون القطار «القشاش» الذي يقف في كل المدن والقرى، فركابه معدمون، ومعظمهم يركبون بلا تذاكر، ولا يملكون ما يتصدقون به.. أما في القطارات الأخرى فالوقت كله للشحاذ المتجول بين العربات داعياً لركابها بسلامة الوصول كي يرقق قلوبهم، وهو يفعل ذلك «ذهاباً وإياباً»، قبل عد الغلة آخر النهار.
وعلى هذا النحو تصبح الشحاذة ديناً، كما يصبح تكرار الوعظ والإصرار عليه شحاذة.. والضحايا هم الركاب المحشورون في مكان وزمان محددين.. مثل الشحاذة على أبواب المساجد لدى خروج المصلين، وعرض بائعي الخضر والفاكهة خضراواتهم مع «عطور أهل الجنة»!
وشحاذو القطارات أكثر ذكاءً من شحاذي الطريق العام ووعاظه. فهناك سيدات على الأرصفة، مادات أيديهن حين تقف العربات في الإشارة. وأخريات يحملن أطفالهن كي تحن القلوب عليهن. وهناك أطفال بأيديهم قطع قماش لمسح زجاج العربات في بضع ثوان عند إشارات المرور الضوئية.. كي تمتد الأيدي نحوهم بما تجود به النفوس.
ظاهرة الشحاذة والوعظ موجودة في كل المجتمعات، فهي وسيلة تحمي من البطالة. وأفضل مثل على ذلك متشردو باريسles Clochards de Paris الذين ينامون على مقاعد المنتظرين. ولهم أشكالهم الرثة، وشعرهم المنفوش، وذقونهم الطويلة، ولباسهم القذر، وبجوارهم قطعة خبز وكأس عصير. وهم غالباً نائمون، لا يمدون أيديهم، وربما هناك كوز معدني يرمي فيه المتصدقون بما يريدون. ويعتبر الباريسيون هؤلاء «الكلوشار» فلاسفة، لا يقصدون الشحاذة بل التأمل في حال الدنيا. ويحب الباريسيون التحدث معهم لسماع آرائهم في الحياة. وقد كتب علماء الاجتماع عدة مؤلفات في هذا الموضوع. وبعض الشحاذين يأخذون مقابل الموسيقى أو الرسم.. فباريس مدينة الفن، والباريسيون خير من يتذوق الفنون، ولا يوجد منهم من يشحذ أو يعظ في قطارات المترو أو قطارات السكة الحديد. وهناك فرق بين الشحاذة من أجل إحياء القلب والشحاذة من أجل إماتته، الشحاذة عن طريق الفن والشحاذة عن طريق التمثيل والادعاء.. الأولى صادقة، والثانية كاذبة.
الوعظ الصادق ليس الوعظ التجاري، ولا يكون الوعظ الديني بالكلام بل بالأفعال، بإعطاء نماذج لسلوك الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والشرف.. في مجتمع تتهدده الظواهر السلوكية من كل نوع. والشحاذة ليست مصدراً للرزق. فخيرنا من أكل من عمل يده، «وَقُلِ اعْمَلُوا»، وكان الأنبياء حرفيون يعملون، وكان أفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام قد رعى الغنم وعمل في التجارة.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة