في تصريح له، أدلى به قبل وفاته، إلى مجلة (موندَ دي ريليجن) الفرنسية عن حال العالم عامة، وأوروبا خاصة، قال شاعر فرنسا الكبير «إيف بونفو»: «أرى كيانات دولية تقترب من الانهيار، وبات يسيطر عليها شعور القيامة الغامض، ذلك الشعور الذي يمكن رؤيته بالعين في تهدم المناخ، وارتكاس الأرضي، وحركات الانفصال الاجتماعي بسبب رايات الانعزالية الشعبويّة». وتصريح «بونفو» يأتي في غمرة من التساؤلات الدائرة في الأوساط الفكرية والسياسية في أوروبا وأمريكا، من أهمها: هل باتت أوروبا على موعد مع التفكيك والعزل والإقصاء، عوضا عن الوحدة والتجميع، بعدما حلّق في الآفاق حلم الاتحاد الأوروبي لنحو عقدين من الزمان؟ الفزع الإنساني الذي يقف وراء تصريحات كهذه هو تنامي الانعزالية الشعبويّة التي اتفق على أنها (حركة سياسية عنصريّة) تعيد المجتمعات إلى شعار (نحن أولاً.. نحن من يمثل الشعب الحقيقي). وهو شعار يتعامل مع الآخر بصفته (أجنبياً وغريباً). وذهب كثيرون إلى أن الحركة (ردّة حضارية) وقوميّة متعصبة، تُعيد العالم إلى الهويات العرقية والدينية القاتلة. باختصار هي حركة تقوم على معاداة التعدّدية بمعناها الواسع. وربما الكارثة أنها تدعو الشعوب للعودة إلى (نقائها الأصلي) وإن باستخدام أدوات عنيفة. وعزى مفكرون كبار ما يحدث من تنامي الشعوبية إلى غياب (التسامح، والمساواة، والعدالة، والتعددية الثقافية) كمعايير لا يمكن فرضها كما يقال (بالطائرات والجيوش الجرارة) إنما بالعمل عليها لتصبح ثقافة عامة لدى كافة أفراد المجتمع. وهنالك حديث متواتر عن اختطاف الديمقراطية الغربية من قبل الشعبويّة، التي نجحت في كل من فرنسا وفنلندا وإيطاليا وهولندا والنرويج، وظهرت في ليتوانيا والسويد وألمانيا. ترى ما الذي جعل الشعبويّة تتنامى؟ كثيرون يعتقدون أنها تنامت بسبب من خوف اكتساح المهاجرين للسكان الأصليين كما يسمون أنفسهم (البيض أهل الديار) ما يعني أن شعوراً تسرب إليهم أن هنالك حركة (استبدال كبير أو إحلال) تحدث لهم على نحو مؤثر في الهوية الثقافية ونمط العيش وفرص العمل، كما رصدها شعبويون قدامى منذ العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية عام 1945. وبسبب آخر اعتبروه معادلاً موضوعيا للشعبويّة، هو «الإسلامويّة»، عززه ما حدث من عمليات إرهابية لـ«القاعدة» و«داعش» ضربت في أنحاء متفرقة في العالم.
الشعبويّة هي حركة (للمحظوظين) كما سمّاها المفكر الدكتور عبدالله الغذامي - السعودية -وليست (ثورة جياع) كما قد يفهمها البعض. الجديد واللافت في السياق ذاته أن باحثاً إيطالياً اسمه (توماس فيرجلي) اعتبر أن حركة «الإخوان» التي تناسلت منها حركات عدّة ترفع شعار الإسلامويّة، هي المسؤولة عن تنامي الشعبويّة في أوروبا وأميركا وغيرها في العالم. في أميركا التي يحاول فيها الرئيس ترامب العودة ببلاده للقبض على مجريات الشأن الدولي، بتوسيع الفجوة مع روسيا والصين في غمرة الصراع القطبي. أصدرت (مادلين أولبرايت) الوزيرة الأسبق للخارجية الأميركية في إدارة الرئيس بيل كلينتون، كتاباً عنوانه (إمبراطورية الخوف) تتحدث فيه عما جرى لبلادها في إدارة الرئيس جورج بوش الابن (وكيف أن زراعته للخوف بعد 11 سبتمبر 2001م، قد ولّد تيارات انعزالية، وأعطى قُبْلة الحياة لجماعات شعبوية يمينية.. إن بوش الابن وصحبه، قد تلاعبا على المتناقضات وصعدا من وتيرة الانعزاليين الأميركيين حين أشاعوا مشاعر الخوف من الآخر في الحياة الأميركية، وهذا العزف النشاز - تقول أولبرايت - ارتدّ سلبًا على المجتمع الأميركي، فبات يعاني من حالة تمزقٍ في نسيجه. وخلصت أولبرايت إلى أن الأميركيين في عجزهم عن الخروج من مملكة الخوف، سيجعل الإرهابيين ينجحون، فهم قد دعموا سلفاً الشعبويّة الأميركية).
*إعلامي وكاتب صحفي