أصبح الدفع عبر الهاتف النقّال للحصول على بضائع أو خدمات معينة في بعض دول العالم ممارسة عادية يومية، ويستغرب من الشخص الذي يحمل معه عملات نقدية أو حتى بطاقات الائتمان، والتي أصبحت الخيار الثاني في العديد من الدول كالصين ومنغوليا والبرازيل وكينيا وشيلي وكولومبيا، وقد يستغرب القارئ من ورود أسماء بعض هذه الدول كالدول الأكثر استخداماً للدفع عبر الهاتف، مما يشير إلى الطبيعة الصاخبة للمتغيرات الجارية في هذا الصدد، وذلك وفق الأرقام التي ذكرت في موقع (ٍStatista) من بيانات وردت من شركات (eMarketer) عن دراسات تمت في عام 2017، كما وتقترب الدنمارك بسرعة لأن تكون دولة تتعامل بالعملات الرقمية كبديل عن العملات النقدية، ويرجع الفضل في ذلك لتطبيق يدعى (MobilePay)، حيث تم تحميل هذا التطبيق على أكثر من 90% من الهواتف الذكية هناك، وقد استخدم التطبيق أكثر من 3 ملايين مواطن دنماركي لإجراء أكثر من 90 مليون عملية شرائية في العام الماضي.
وبحلول عام 2030 ستختفي العملة الورقية والمعدنية بصورة كاملة من دول مثل السويد، حيث يشير مسح للبنك المركزي السويدي إلى أن أقل من 15% من السويديين يسددون فواتير مشترياتهم نقدًا، وأن الاقتصاد النقدي يمثل 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهناك دول أخرى تسير على نفس الخطى وحتماً ستتوقف عن استخدام النقود الورقية والمعدنية لصالح المعاملات الرقمية، وذلك على شاكلة الدنمارك وكندا وبريطانيا واليابان وروسيا والصين.
ومن جهة أخرى، فإن أنماط التسوّق والتعامل المالي متجهة إلى العملات الرقمية، والتي تعدّ الأقل تعقيداً والأسرع في التحويل والاستخدام والأكثر ملائمةً لأسلوب حياة الأجيال الناشئة، وستعمل الحكومات من جانبها على الاندماج وتبني ممارسات مختلفة تماماً في التشريعات والقوانين المالية والبنكية وإصدار العملات المشفّرة الوطنية، مما يتوجب على البنوك المركزية في العالم أن تتحرك بسرعة كبيرة، قبل أن يجدوا أنفسهم أمام نظام مالي موازي، والنقود الورقية قد استبدلت في سوق المعاملات التجارية، ولا سيما أن مشروع مثل Facebook Pay وعملة Libra في تطبيق «فيسبوك» بالإضافة إلى ما يجري في أسواق بيتكوين BTC، وباقي تطبيقات البلوك تشين والعملات الحكومية النقدية الرقمية القادمة للساحة المالية ستعيد رسم الخارطة المالية في العالم ناهيك عن توجهّات دمج البيانات المصرفية وغير المصرفية في نظام إيكولوجي مبني على فتح واجهة برمجة التطبيقات (APIs)، والذكاء الاصطناعي مما سيسّهل التنبؤ باحتياجات المستهلكين والتحقّق من الميول والمقدرة المالية وهندسة المتطلبات المتوفرة للمال وأتمتة المال الخاص بكل شخص، وتطوير منصّات مالية ومتاجر لبيع التجزئة مرتبطة بمصادر وإمدادات المنتوجات ذات الصلة بأقل تكلفة ممكنة.
ولربما أصبح المستهلكون أقل انشغالًا بالملكية مثل ملكية السيارات حيث سينتقل الاقتصاد إلى نموذج الاشتراك في نظام الحوافز، حيث تكون الأسعار رمزية، أو دفع أقساط المستهلكين إذا اعتمدوا نمط حياة صحيا على سبيل المثال والتعاقد مع شركة ما تتكفل بدفع أقساط السيارة مقابل عقد طويل الأمد للمستهلك، وهذه المعاملات ستحدد الاقتصاد الاستهلاكي القائم على العقود الاستشرافية الذكية والأموال القابلة للبرمجة.
فالعملة المشفّرة ستتجه إلى توجه وميول وسلوك المجتمع الحالي وخلق مجتمعات، أو أن تكون جزءاً من المجتمعات الافتراضية في التواصل الاجتماعي وغيرها من التطبيقات الذكية، حيث سيتمكن المستهلك من التأكد أن تصل المنفعة الاقتصادية لمؤسسة أو شخص أو دولة بعينها أو مجتمع ديني أو إثني محدّد والانتقال إلى عصر التمييز والفصل الاستهلاكي الإلكتروني، أو أن يكون مقابل كل ما يصرف قيمة ادخارية ذكية، تكون بمثابة محفظة استثمارية مصغّرة، ولذلك التوجه لمن يعرض فوائد أكبر للمستهلك، مقابل الولاء للمنتج والعلامة التجارية، فالأموال الإلكترونية هي المستقبل، وهي التي سوف تصنع اقتصاد المستقبل وتقلص دور المؤسسات المالية الأممية، ولذلك يناقش هذا الطرح اليوم على أكبر المستويات السياسية في الولايات المتحدة الأميركية تحت مسمى «تهديد العملة الرقمية للهيمنة الأميركية» وخاصةً في ظل تسارع التأثير المتوقع من «اليوان الرقمي»، واتخاذ عدة بلدان بالفعل خطوات ملموسة أو إعلانها العزم على إطلاق عملة رقمية وطنية.
ومن المتوقع أن تطلق العديد من الدول في 2020 عملات وطنية رقمية، وهي دول كتركيا وفرنسا وغيرهما من الدول، أو ثنائية بين الدول كمشروع «عابر» للعملة النقدية الرقمية بين السعودية والإمارات، ولربما نسمع في المستقبل عن عملة احتياطية عالمية اصطناعية مدعومة بسلة من الأموال الرقمية الصادرة عن الحكومات.
*كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.