منذ فجر التاريخ وبنو البشر يتقاتلون ويتصارعون في جميع التضاريس الجغرافية، من سهول ووديان وجبال، وعلى جميع المسطحات المائية من بحار ومحيطات وأنهار، وفي أغوارها وأعماقها باستخدام الغواصات المسلحة بالطوربيدات. وحتى المسافة الفاصلة بين الأرض والسماء استغلت أيضا للقتال ولسفك الدماء، باستخدام الطائرات الورقية والمناطيد في التاريخ القديم، وبالاعتماد على الطائرات الحربية والمقاتلة منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا. ومؤخرا وبعيدا عن الجاذبية الأرضية وخارج الغلاف الجوي ذاته، أصبح الفضاء الخارجي، مسرحا لسباق تسلح، تتسارع وتيرته، ويُبشر بحرب فضائية مرتقبة.
آخر فصول سباق التسلح هذا، تجسدت مع إعلان الرئيس الأميركي الحالي قبل أيام قليلة، عن إنشاء فرع جديد في القوات المسلحة الأميركية، سيعرف باسم القوات الفضائية (Space Force)، على غرار فروع القوات المسلحة الأخرى، كالقوات الجوية، والقوات البحرية. وتعتبر هذه القوة تطويرا للقيادة الفضائية (Space Command) التي كان قد أُعلن عنها في أغسطس الماضي، وسيخصص لها ميزانية في السنة الأولى تبلغ 40 مليون دولار، ضمن ميزانية الدفاع الأميركية البالغة 738 مليار دولار، وبقوة مكونة من 16 ألف ضابط وجندي ومدني.
ويندرج هذا التطور الأخير ضمن المجال المعروف بعسكرة الفضاء (Space Militarization)، والذي تعود جذوره إلى بدايات الحرب الباردة في الأربعينيات. ويُعنى هذا المجال بتطوير أسلحة وتقنيات لغرض الاستخدامات العسكرية في الفضاء الخارجي. وربما كان أشهر مثال على هذه التقنيات، منظومة الأقمار الاصطناعية المستخدمة لتحديد المواقع (جي. بي إس)، والتي قبل السماح باستخدامها للأغراض المدنية، كانت مخصصة للاستخدامات العسكرية المحضة. مثل تحديد مواقع الأهداف بدقة، لقصفها بالقنابل الذكية، وصواريخ كروز، ورفع مستوى التحكم والقيادة للقوات الأرضية في مسرح العمليات.
وكنتيجة لهذه الأهمية العسكرية الفائقة لنظم تحديد المواقع باستخدام الأقمار الصناعية، والتحكم الأميركي المطلق فيها، سارعت العديد من الدول بإنشاء وإطلاق منظومات مثيلة، مثل روسيا والتي تمتلك حاليا نظاما مستقلا تماما يعرف باسم «جلوناس»، والصين والتي تمتلك نظاما مثيلا يعرف باسم «بايدو»، وحتى دول الاتحاد الأوروبي أصبحت تمتلك نظاما خاصا بها، يعرف باسم «جالليلو» بُدأ العمل به في 2016 بتكلفة 10 مليارات يورو.
ولن يتسع المقام لشرح الاستخدامات العسكرية الفضائية القائمة بالفعل، أو المخطط لها في المستقبل، ولكن نذكر منها: الاتصالات العسكرية المُؤَمّنة، وأقمار التجسس على العدو، وأقمار رسم الخرائط الدقيقة، والتشويش الإلكتروني، وغيرها. كما لا يقتصر استخدام الفضاء للأغراض العسكرية على الولايات المتحدة، بل قد يرى البعض أن الولايات المتحدة ليست متقدمة بمسافة بعيدة عن القوى العسكرية الكبرى الأخرى. فبعد تاريخ طويل وتطورات عدة، أسست روسيا عام 2001 قوة فضائية مستقلة، ونجحت الصين في يناير 2007، في تدمير قمر صناعي تمتلكه، يبلغ وزنه 750 كيلوجراماً، ويدور على ارتفاع 856 كيلومتراً.
وبوجه عام يمكن تقسيم الأسلحة المزمع استخدامها في حروب الفضاء المرتقبة –أو ربما التي تم نشرها بالفعل- إلى ثلاثة أقسام رئيسية، أولا: صواريخ أرض-فضاء، والتي ستطلق من قواعد أرضية لتدمير الأقمار الاصطناعية المستخدمة من قبل العدو للتجسس أو لتحديد مواقع الأهداف والتحكم في حركة القوات الأرضية. ثانياً: صواريخ فضاء-أرض، والتي ستطلق من أقمار اصطناعية لتدمير قوات العدو على الأرض، مثلها في ذلك مثل قاذفات القنابل، وصواريخ كروز، وفي هذه الحالة ستكون قواعد الصواريخ تدور خارج مجال الجاذبية. وتسعى بعض القوى العسكرية الكبرى إلى استخدام أشعة ليزر هائلة القوة لتحقيق نفس الهدف. ثالثا: صواريخ فضاء-فضاء، والتي ستطلق من أقمار اصطناعية، ضد الأقمار الاصطناعية المعادية.
وفي الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة سباق التسلح الفضائي، تسعى بعض المعاهدات إلى إبطاء هذه الوتيرة، أو على الأقل تحجيمها، مثل اتفاقية الفضاء الخارجي (Outer Space Treaty)، والتي تمنع الموقعين عليها من وضع أسلحة نووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل في مدارات حول الأرض، أو في الفضاء الخارجي، أو على سطح القمر، أو على أي من الكواكب والأجسام الفضائية الأخرى، وتم التصديق بالفعل على هذه الاتفاقية من قبل 98 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، وروسيا، وبريطانيا، بالإضافة إلى 27 دولة أخرى وقعت عليها ولم تصدقها بعد. والجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية تمنع فقط وضع الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل في الفضاء الخارجي، ولكنها لا تمنع عسكرة الفضاء الخارجي بالاعتماد على الأسلحة التقليدية الأخرى.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية