إنه موضوع شائع في كل الحضارات وفي كل مراحل التاريخ، ألا وهو موضوع العقل والنقل (العقل والسمع) في الحضارة الإسلامية، موضوع العقل والإيمان في الحضارة الغربية خلال العصر الوسيط، وموضوع العقل والنقل أو «الحلقة والهجاده» في اليهودية.. والخوف فيه من الوقوع في العموميات التي يعرفها الجميع والتحليلات المدرسية الشائعة في المقررات والمذكرات والكتب الجامعية، وتكرار الأحكام النمطية المعروفة. صدرت العديد من الكتب، وأنجز العديد من الرسائل الجامعية حول هذا الموضوع.. ومن ثم يصبح التحدي: ما الجديد؟ كيف تمكن مقاربة الموضوع من منظور مختلف؟ والسؤال الرئيسي في مسألة العقل والنقل ينطلق من نظرية المعرفة: ما هي مصادر المعرفة؟ هل للمعرفة مصدران أم مصدر واحد؟
تعتمد المعرفة الإنسانية على الحس والعقل والحدس والرواية (أي الخبر، وهو المعرفة التاريخية). لكن ما هي طبيعة المعرفة التي تتم عن طريق الوحي الإلهي؟ وهل هي تأكيد لمعرفة مستقلة أم هي تأكيد لوسائل المعرفة الإنسانية بالتأمل في الطبيعة بالحس والعقل الذي يركز عليه الفلاسفة والأصوليون؟ وما هي المعرفة الحدسية، أي الإدراك المباشر الذي يركز عليه الصوفية؟ وماذا عن منهج المعرفة السمعية عن طريق الروايات التي يعتمد عليه المتكلمون لمعرفة النقل؟
المعرفة البشرية الخالصة لها مصدر واحد هو المعرفة الإنسانية، والمعرفة الإلهية (الوحي) تأتي عن طريق الرواية شفاهاً أو تدويناً لتأكيد صحة المعرفة الإنسانية، والتحول من الظن إلى اليقين، ومن الفرض إلى التحقق، ومن النظر إلى العمل. وتتعدد الآراء ووجهات النظر الإنسانية، ويأتي الوحي عاملا مرجحاً لإحداها، فيطول البحث وتتعدد وجهات النظر. ويأتي الوحي لإعطاء اليقين الذي تعضده المعرفة العقلية والعلمية. وقد يكتفي النظر بالوصول إلى الحقيقة، ويدفع الوحيُ إلى تحقيقها والاستفادة منها.
وطبقاً لمنطق العلاقات بين الطرفين، العقل والإيمان، هناك ثلاثة احتمالات، الأول التوحيد بينهما تماماً، ليصبح العقل هو الإيمان والإيمان هو العقل، وبالتالي يكون السؤال: ما لزوم أحدهما إذا كان لا يختلف عن الآخر ولا يضيف إليه؟ الإنسان عاقل أولاً منذ البلوغ، والبلوغ والعقل شرطان للتكليف الشرعي، فالعقل سابق على الإيمان في التكوين الإنساني.
والاحتمال الثاني، أن يكون العقل والإيمان نقيضين لا يلتقيان مطلقاً، فالعقل نظر واستدلال، والإيمان كشف ومشاهدة. وهذا هو موقف بعض اللاهوتيين القائلين: «أنا أؤمن لأن الإيمان متناقض»‏، ?وهو ?ما ?يستحيل ?في ?المعرفة ?الإنسانية. ?لكن المعارف ?تتكامل ?ولا ?تتناقض، ?والتكامل ?قوة ?ويقين، ?والتناقض ?تضارب ?وحيرة ?وإقصاء ?متبادل ?أو ?استبعاد ?الكل ?والوقوع ?في ?اللاأدرية ?ثم ?العدمية. ?العقل ?والإيمان ?مختلفان، ?لكنهما ?متكاملان. ?إذا ?كان ?العقل ?ينتقل ?من ?المقدمات ?إلى ?النتائج، ?فالإيمان ?ينتقل ?أيضاً ?من ?الرياضات ?والمجاهدات ?إلى ?الكشف ?والمشاهدة. ?وإذا ?كان ?العقل ?يخطئ ?والإيمان ?لا ?يخطئ، ?فإن ?العقل ?البديهي ?لا ?يخطئ ?والوحي ?المدون ?يحتاج فهمه ?إلى تأويل ?يختلف ?فيه ?الناس ?وتتعدد ?فيه ?المناهج ?بين ?ظاهرية ?وباطنية ?وتاريخية ?ولغوية ?وفقهية ?وكلامية ?وفلسفية ?وصوفية.. ?وتتداخل ?فيه ?المناهج ?القديمة ?والحديثة ?(كالبنيوية ?واللسانية ?والظاهراتية).
لم يبق إذن إلا الاحتمال الثالث، وهو التداخل والتكامل، أي التمايز بين طرق المعرفة والوحدة في غايتها، بمعنى التمايز في المنهج والتكامل في الموضوع والهدف (أي الوصول إلى الحقيقة). وهناك احتمالان فرعيان، الأول أن يكون العقل هو الأساس والإيمان هو المؤسَّس. وهو موقف العقلانيين، مثل المعتزلة والفلاسفة (خاصة ابن رشد وديكارت وليبنتز وكانط وهيجل ومندلسون)، والثاني أن يكون الإيمان هو الأساس والعقل هو المؤسَّس. وهو موقف الأشاعرة وأوغسطين وأنسيلم وبسكال والربانية اليهودية وجميع فلاسفة اللاهوت.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة