لطالما أزعجني عدم إلمام كثير من المسيحيين في الغرب أو عدم مبالاتهم بمحنة الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين. فالإنجيليون من الجناح اليميني يعميهم هوسهم بإسرائيل لدرجة أنهم لا يرون ضحاياها. والمسيحيون الغربيون الآخرون لا يعلمون شيئا وكفى عن شعب فلسطين. لقد أرّقني هذا الحال دوما لكنه يؤرقني أكثر مع حلول ذكرى ميلاد المسيح. فقصة الميلاد التي نحتفل بها لم تحدث فحسب على هذه الأرض بل مازالت تحدد حياة الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق مثل بيت لحم والناصرة. وحين يفكر المسيحيون الغربيون في هذه المجتمعات، ترد على أذهانهم صور خيالية من صنع الأفلام والفنانين والأغاني والقصص. ويغيب عنهم فكرة أن بيت لحم مكان حقيقي به أشخاص حقيقيون. ولذا من المهم أن يكون لدينا معرفة بشأن حال بيت لحم الآن.
فلطالما كانت بيت لحم مثار خيالنا. والمشاعر التي أثارتها هذه المدينة في الخيال صوّرتها صيغُ فنية كثيرة، مما ساهم في إلهام المسيحيين وغير المسيحيين. إنها مكان الغموض والتناقص، و«البلدة الصغيرة المسالمة»، التي لعبت دوراً يتجاوز حجمها في التاريخ لتكون مسقط رأس المسيح، فهذه هي الصور التي ترد على أذهان مئات الملايين من المسيحيين حول العالم حين تُذكر بيت لحم. لكن للأسف، رسمت ضغوط الحياة اليومية المعاصرة صورة مختلفة كثيراً لهذا المكان التاريخي.
إن «بيت لحم» تختنق ببطء نتيجة معاناتها من الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967. وخسرت معظم أراضيها لصالح إقامة المستوطنات. ويطوقها جدار خرساني ارتفاعه 30 قدماً، وهي معزولة عن مواردها وممنوعة من إمكانية دخولها إلى الأسواق الخارجية. ولذا هناك 25% من سكان بيت لحم بلا وظائف و35% يعيشون تحت خط الفقر. وقبل الاحتلال، كان هناك بضع آلاف من الفلسطينيين في بيت لحم يعملون كحرفيين للأعمال الفنية المصنوعة من خشب أشجار الزيتون، أما الآن- بعد أن مُنعت إمكانية التصدير بحرية والأضرار الناجمة عن الحكم العسكري- لم يعد يعمل بهذه الصناعة سوى بضع مئات. وعانت السياحة بالمثل في بيت لحم، فالشركات الإسرائيلية التي تهيمن على الصناعة، تأتي بالسياح كي يقيموا في فنادق بالمناطق التي تسيطر عليها إسرائيل، مما يسمح بزيارات يومية فحسب إلى الأماكن المقدسة في بيت لحم. والزوار يأتون إلى المدينة لبضع ساعات، لكن العائدات تذهب بشكل غير متناسب إلى الإسرائيليين.
وخسرت بيت لحم مساحة كبيرة من الأراضي بسبب المصادرات الإسرائيلية بغرض بناء مستوطنات بحيث لم يعد بوسع المدينة التوسع. ولا يمكنها إلا البناء رأسياً، ولذا ما بقي من بيت لحم أصبح شديد الزحام، وشوارعها الضيقة تختنق فيها حركة السير. ويشكو الزعماء الإسرائيليون عادة من أنهم يتعين عليهم توسيع مستوطناتهم حتى يستطيع شبابهم العثور على سكن. ويؤكدون على أنه يتعين عليهم مواصلة بناء الجدار العازل من أجل حماية السكان في هذه المستعمرات غير القانونية. وما لا يفصحون عنه هو أن الجدار يُقام على أراض يملكها فلسطينيون ويفصل قرى عن ممتلكات ساكنيها. وأن توسع المستعمرات الاستيطانية العملاقة -في «هار هوما» و«جيلو» و«هار جيلو» و«بيتار عيلييت» «وجفعات» وغيرها- يحدث على حساب الفلسطينيين الذين يعيشون في منطقة بيت لحم. ويطلق الإسرائيليون على هذه المستعمرات اسم«أحياء القدس». لكن هذه مساع فجة تستهدف طمس حقيقة إقامتها على أراضي بيت لحم التي صادرتها إسرائيل بشكل غير قانوني وضمتها إلى ما يطلق عليه «القدس الكبرى».
ونتيجة لهذا ليس للفلسطينيين الآن إلا سيطرة هشة على 13% من منطقة بيت لحم، ومازال الإسرائيليون يهددون بالاستحواذ على المزيد. والواقع أن 22 مستوطنة إسرائيلية أُقيمت في منطقة بيت لحم والطرق التي تربطها والجدار الذي يحميها، جميعها بني على أراض اُنتزعت من الفلسطينيين. وخطط التوسع الجديدة للإسكان المقتصر على اليهود وتوسع الجدار العازل يعني ببساطة انتزاع المزيد من الأراضي.
وبإلقاء نظرة على الخريطة، نجد أن بيت لحم لا تبعد إلا بضعة أميال عن القدس. وقبل 20 عاماً فحسب، كان المرء حين يقف بالقرب من ميدان المهد يستطيع أن يرى مروج جبل غنيم الخضراء ويرى القدس. وكانت الرحلة تستغرق 15 دقيقة فحسب بالسيارة. اليوم لم يعد من الممكن رؤية هذه الأشياء بسبب الجدار العازل الذي يرتفع 30 قدماً ومروج جبل غنيم التي كانت متنزها للأسر الفلسطينية من قبل، أصبحت الآن موقعاً لمستوطنة «حار حوما» العملاقة التي يقطنها 250 ألف إسرائيلي. ونتيجة لهذه المستوطنات والطرق التي لا يُسمح بعبورها إلا لليهود والجدار العازل، نضج جيل كامل من الشباب الفلسطيني دون أن يرى القدس. وانعزل السكان كلهم عن المدينة التي كانت تمثل لهم المركز الحضري الذي يحصلون منه على الرعاية الصحية والخدمات التعليمية والاجتماعية وكانت سوقهم ومصدر وظائفهم وثرائهم الروحي والثقافي.
والآن، يبلغ عدد السكان الفلسطينيين في منطقة بيت لحم 210 آلاف نسمة، بينما هناك أكثر من 165 ألف مستوطن إسرائيلي، مع وجود خطط لتعزيز هذا العدد في المستقبل القريب. وفي مواجهة هذا الهجوم البشري، تقدم الفلسطينيون بقضيتهم إلى محكمة العدل الدولية التي قضت بأن المستوطنات والجدار العازل غير قانونيين ويمثلان انتهاكاً واضحاً للقوانين الدولية التي وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية لحماية حقوق الشعب المقيم على أراض محتلة في زمن الحرب. لكن إسرائيل صمت آذانها، مدعومة من الولايات المتحدة، وواصلت البناء ونقل شعبها إلى مناطق فلسطينية والاستحواذ على المزيد من الأراضي.
كل هذا يحدث والمسيحيون في الغرب يرددون في أغانيهم اسم «البلدة الصغيرة المسالمة»، ولا يسمعون صرخات سكانها. والأكثر إثارة للإزعاج هو الدرجة التي وصل إليها صمم الآذان المقصود من صناع السياسة ومن الأشخاص الذين يجب أن يكونوا أصحاب دراية أفضل لمناشدات الفلسطينيين للاعتراف بمحنتهم، وبالتالي يسمحون باستمرار هذا الظلم. وفي الوقت نفسه، في بيت لحم، أصبح الأمل يتوارى أمام اليأس، وتتوارى أفكار السلام أمام مشاعر الغضب، ويجب الانتباه إلى هذه المأساة.
للحظة واحدة فكروا في حال المدينة اليوم. تخيلوا مشاعركم لو أنكم تعيشون في المدينة وتشاهدون أراضيكم وهي تنتزع منكم ليقام عليها منازل وطرق لأناس آخرين. وتخيلوا مشاعركم إذا أُجبر أبناؤكم على المنفى للعثور على عمل ليتركوا فرص العمل لأبناء أناس آخرين جاؤوا وأقاموا على أرضكم. وانصتوا جيداً إلى صراخ شعب هذه البلدة الصغيرة.
*رئيس المعهد العربي الأميركي