من خلال لقاء أخير مع شخصية سياسية قيادية ليبية حول تطورات الوضع السياسي في بلاده، أدركت حجم التدمير المريع الذي جرّه التدخل الأجنبي المستمر في الساحة الليبية. قالت لي الشخصية المذكورة: لولا نجدة الأشقاء العرب من الإمارات والسعودية ومصر، لكانت ليبيا صومالا جديداً ممزقاً، تتحكم فيه المليشيات المسلحة، ولا يزال تحرير مناطق عديدة من البلاد في مقدمتها العاصمة طرابلس هدفاً مطلوباً لاستعادة وحدة وتماسك الدولة الليبية.
يقول محدثي إن الخيار المطروح اليوم في ليبيا هو إعادة بناء المنظومة السياسية للدولة المركزية على قواعد جديدة تأخذ بعين الاعتبار محددات ثلاث رئيسية: التباين الجغرافي والبشري بين الأقاليم الليبية، تركة العهد الاستثنائي السابق الذي خلّف أزمة اجتماعية حادة وملفات حقوقية شديدة الحساسية والصعوبة، تباين المصالح الاستراتيجية بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالملف الليبي.
ومن هنا أهمية المشروع العربي لاستعادة وحدة الدولة الليبية وتخليصها من المليشيات المسلحة، ووضع الإصلاحات الدستورية والسياسية الكفيلة ببناء نظام حكم يكفل تمثيلا عادلا وناجعاً لمختلف مكونات النسيج الاجتماعي الليبي المتنوع.
ولعل تلك هي نفس المتطلبات المطروحة اليوم في العراق أيضاً، والذي يشهد انتفاضة عارمة ضد نهج الطائفية السياسية والتدخل الأجنبي. ولقد تزايد الوعي لدى النخب العراقية بأن الخروج من المأزق الاجتماعي والسياسي القائم هو رجوع العراق لهويته العربية ومحيطه الإقليمي الطبيعي.
في سوريا هناك حالة مماثلة، على الرغم من الخصوصيات المحلية، فلا بديل فيها عن إعادة بناء الدولة على أسس تشاركية وتمثيلية عادلة ومنصفة، ولا خيار عن وقف التدخل الخارجي والتحرر من المليشيات المسلحة بمختلف تلويناتها الطائفية والأيديولوجية.
لا نحتاج إلى القول بأن الوضع اليمني يتطلب نفس المقاربة السياسية التي تصون هوية البلاد ووحدتها وتقف ضد التدخل الأجنبي وتعتمد الحوار بين الفرقاء السياسيين من غير الجماعات الإرهابية والمتطرفة.
إن المنهج المطلوب في هذه المقاربة العربية الضرورية والحيوية هو ما يمكن أن نطلق عليه «المنظور القومي التحديثي المتسامح»، وهي عبارة مركبة تحمل معان ثلاثة محوريةٍ مترابطة.
المعنى الأول هو ما تحمله عبارة القومية التي نستخدمها خارج دلالاتها الأيديولوجية الرائجة، بحيث تعني المظلة العروبية الاندماجية رابطة انتماء ومرجعية سياسية واستراتيجية. لابد من إعادة صياغة وإنتاج الفكرة القومية التي نعتقد أنها لم تستنفد أغراضها ولا تزال مثالا موجهاً للمستقبل ومرتكزاً للهوية والوعي، على الرغم من أخطاء التجارب الحزبية والأنظمة التسلطية التي رفعت الشعار القومي.
أما مقولة التحديث، فنعني بها دلالتها التاريخية التنويرية في مواجهة التيارات المتطرفة والنزعات الانكفائية التي تعيد إنتاج الهويات الطائفية والعصبية التي طالما سعت لتقويض مرتكزات الدولة الوطنية. وللتحديث، بمعناه التاريخي التنويري، دوائر متعددة، من بينها ما هو فكري يحيل إلى المشروع العقلاني النقدي لحركية التنوير العربي المتعطلة، ومنها ما هو سياسي مؤسسي يتعلق بمنظومة الحكم وبناء الدولة وفق قواعد وآليات الحرية والمشاركة والنقاش العمومي، ومنها ما هو مجتمعي يتصل بطبيعة البنيات والهياكل المدنية والأهلية التي هي أساس المواطنة المتساوية المتعاضدة.
أما مقولة التسامح، فهي وإن كانت من مرتكزات الحداثة التنويرية، إلا أنها أفق قيمي وأخلاقي مرجعي، في دلالتها الداخلية المتعلقة بإدارة الاختلاف والتنوع داخل مجتمعاتنا التي تعرف في العديد من الساحات ظواهر الفتنة والصراع الداخلي الحاد، وفي دلالتها الخارجية المتعلقة بالحوار مع الديانات والثقافات والملل الأخرى وفق معايير القبول والحوار والتضامن.
إن العلاقة بين المفاهيم الثلاثة جلية واضحة، فالفكرة القومية هي نتاج الحداثة السياسية من حيث شحنتها التنويرية وأفقها الإنساني، ومفهوم التسامح هو الجوهر الفلسفي لمنظومة التنوير ومحور عملية التحديث السياسي والمجتمعي التي تحتاج إليها مجتمعاتنا العربية.
قبل أيام، تسلم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أول موسوعة عربية للتسامح صادرة عن «منتدى تعزيز السلم»، بمشاركة جمع كبير من أبرز فلاسفة ومفكري وعلماء الإسلام وغيره من الديانات الأخرى، شكّلت حدثاً ثقافياً فريداً من نوعه، وعبرت عن المكانة الريادية لدولة الإمارات في الخارطة الفكرية والقيمية العالمية الحالية. لم يكن هذا الحدث الثقافي منفرداً في سياقه، بل يندرج في عمق التوجهات المجتمعية والدبلوماسية الإماراتية التي حولت هذا البلد العربي الناهض إلى نموذج للتسامح والانفتاح والتضامن، وإلى حصن مكين للعالم العربي في إحدى أدق وأصعب مراحل تاريخه المعاصر.
وكل عام وأنتم بخير

*أكاديمي موريتاني