قبل أن يطوي العام 2019 صفحاته، احتفل السودان الشقيق بمرور عام على قيام ثورته المجيدة، فخرج الناس إلى الشوارع ابتهاجاً بنجاحهم في إزاحة الكابوس الذي ظل جاثماً على صدورهم ثلاثة عقود متواصلة أنهك خلالها البلاد، ودمر نظامه بنيتها التحتية، وأهدر ثرواتها، في حين تاجرت الجماعات المتأسلمة بالدين، ولعلها أسوأ ما حصل للسودان خصوصاً، وللمجتمع المسلم عموماً، إذ أن تلك الجماعات أضافت المزيد من التشوهات لكليهما.
أتابع الشأن السوداني عن كثب، ورغم أن الصورة ما تزال ضبابية إلى حدٍ ما، وبالتالي من الصعب التكهن إلى أين تبحر سفينة البلاد، فإن أملي كبير وثقتي بلا حدود في قدرة أبناء السودان على تخطي الصعاب، خاصة إذا استطاع قادة هذه المرحلة حسن التصرف، بدءاً من قيادة المجلس العسكري بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي، وصولاً إلى الحكومة الانتقالية التي يرأسها د. عبدالله حمدوك، وهو النموذج الوطني المشهود له بالكفاءة والسمعة الطيبة في الأوساط الدولية، وعليه فإنني آمل في أن يسهم بخبرته في إصلاح التشوهات التي أصابت السودان سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً.
في أبريل المقبل سيعقد مؤتمر دولي لتقديم الدعم لحكومة «حمدوك» من أجل تجاوز مرحلة عنق الزجاجة، في ظل الوضع الاقتصادي الحرج للسودان بسبب الديون التي تراكمت عليه، وبلغت 56 مليار دولار، وبالتالي فهو بحاجة ماسة لاستثمارات تحيي عجلة الإنتاج وتنعش الأحوال الاقتصادية.
والمؤتمر دعت إليه مجموعة «أصدقاء السودان»، وهي مجموعة دولية تشكلت لدعمه، وهو الذي يتمتع بموقع استراتيجي مهم، ومكانة إقليمية لا تقل أهمية عن بقية الدول الأفريقية. وتضم المجموعة في عضويتها 24 دولة عربية وأجنبية، من بينها مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة الأميركية والنرويج. وقد عقد «أصدقاء السودان» قبل أيام اجتماعاً في الخرطوم، للتشاور والتنسيق مع الحكومة الانتقالية لتحديد أولوياتها.
وخلال هذه الفترة، قدمت الإمارات والسعودية حزمة مشتركة من المساعدات العاجلة تصل إلى ثلاثة مليارات دولار تشكل 45% من قيمة واردات السودان، ومن أصل ذلك المبلغ تم إيداع 500 مليون دولار في البنك المركزي، بغرض تخفيف الضغوط على الجنيه السوداني، أما بقية المبلغ فقد تم تخصيصه لتلبية الاحتياجات الملحة للشعب، بما يشمل الغذاء والدواء ومشتقات النفط، فإنعاش البلد ضرورة قصوى.
إن المبادرة الإماراتية – السعودية تؤكد عمق علاقات الأخوة مع السودان، فيما تمثل التطورات على أرض الواقع حرص قيادة المرحلة على تكريس العلاقات الجيدة مع بقية الدول، وخصوصاً خلال الفترة القادمة، وقد تابع المراقبون كيف استقبل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، البرهان وحمدوك وغيرهما من شخصيات هذه المرحلة عدة مرات، وخلال فترة لا تتجاوز 6 أشهر، وفيها أكد سموه على مساندة الإمارات للسودان؛ بغية تمكينه من تجاوز الصعاب التي يمر بها، ومساعدته في تحقيق الأمن والسلام على أرضه. ومن هذا المنطلق شجعت الإمارات الحوار بين القوى السودانية المختلفة، لأن الثقة كبيرة بأن السودان، ومن خلال ذلك الحوار، سوف ينجح ويحقق مراده، ويعزز استقراره، ليبدأ مرحلة جديدة بخطى واثقة تجاه المستقبل.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن الصورة ليست وردية تماماً، والمخاض عسير، ذلك أن حكومة «حمدوك» بين يديها ملفات كبيرة وشائكة، وهي بحاجة إلى علاج جذري، بالإضافة إلى ذلك تواجهها عدة قضايا مهمة جداً، في مقدمتها رفع اسم السودان من لائحة الإرهاب، تلك اللائحة التي تقوّض كل الجهود الساعية إلى جذب الاستثمارات إليه، لكن ثمة ما يلوح في الأفق ويبشّر بانفراج تلك الأزمة الخانقة، وخصوصاً بعد مساعي الحكومة الانتقالية السودانية التي تمت مع الإدارة الأميركية، والتي انتهت برفع اسم السودان من «القائمة السوداء» إلى قائمة «المراقبة الخاصة»، التي تضم «البلدان ذات القلق الخاص»، والتي ستخضع للعقوبات إذا لم تحمِ الحريات الدينية بشكل أفضل.
ما جرى حتى الآن يؤكد نجاح قادة المرحلة الانتقالية الذين يعملون بصدق وإخلاص من أجل تجنيب السودان المصائر التي تعرض لها سابقاً، والأمل معقود على أولئك القادة في تقديم نموذج جديد ومتميز لسودان يؤمن بالشراكة بين المدنيين والعسكريين، من أجل بناء دولة ديمقراطية مبنية على القانون، كما أن الرهان كبير على نجاح السودان في ذلك، لما يملك هو وأهله من مؤهلات تمكّنهم من تحقيق المشروع الوطني، إن أخلص الجميع النوايا في بناء عقد اجتماعي يشمل الجميع ويضمن الاستقرار لهم، وبما يسهم في إشاعة الحريات والحريات الدينية واحترام الآخر، ومن ثم معالجة وإدارة القضايا التي يعاني منها المجتمع، وبالكيفية التي تحقق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، وتعزيز حقوق المرأة والتمثيل العادل وتكافؤ الفرص.
مهام صعبة تواجهها وتتولاها حكومة حمدوك، لكنها إن نجحت – وهذا هو الأمل – فإن علامة فارقة ستضاف إلى تاريخ السودان الحديث، فتنهض به، وتسهم في تعافيه، وتصحح مساره ليواكب العصر وبما يليق بشعبه.