ثمة صورة شهيرة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه المؤسسين أثناء افتتاح أول دور انعقاد للمجلس الوطني الاتحادي في فبراير 1972، ?وتتصدر ?القاعة ?خلف ?المنصة ?لوحة ?تحمل ?الآية ?الكريمة «?وَأَمْرُهُمْ ?شُورَى ?بَيْنَهُمْ»?.
وقد وقعت عيني على هذه الصورة مئات المرات من قبل، وهذه المرة تأملت فكرة الدولة الاتحادية، وسياسة الشورى التي تقوم عليها بين سبع إمارات تشكّل مجتمعةً دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان ثمة معنى يدور ببالي أحاول اختزاله في كلمة واحدة، وكانت كلمة التوافق.
عملية الشورى أو التشاور أو تقليب الآراء أو تداول وجهات النظر للتوصّل إلى الرأي الأصوب، إما أن تنتهي بالتوافق، أو بالتخالف، بمعنى أن العملية نفسها مجرد آلية، وتكتسب هذه العملية الميزة حين تفضي إلى توافق بين المتشاورين.
وتدخل الدولة هذه الأيام في عامها الخمسين، ولنا أن نتخيل المحطات، والأحداث، والوقائع، التي مرّت بهذه الدولة خلال نصف قرن، واقتضت الفكرة التي تقوم عليها التشاورَ بين سبع إمارات، وانتهت عملية التشاور إلى توافق تجسّد على شكل سياسة أو توجه أو موقف.
إن مهارةً غير عادية في التفاوض والتوافق امتاز بها الجيل المؤسس، فنحن لا نتحدث عن تأسيس شركة، ولا حتى عن اتحاد بين كيانين سياسيين، بل عن اتحاد يضم سبعة كيانات. صحيح أن درجات ألوان الطيف السبع في الحالة الإماراتية لم تكن متباينة كثيراً، لكن تبقى حقيقة وجود تباينات في الألوان، ما كان لها أن تندمج تحت راية واحدة، وتتوافق على رأي واحد، لولا تلك المهارات غير العادية.
والتأسيس على ما يكتنفه من جهد استثنائي في التفاوض، وتغليب للحكمة وللمصلحة العامة تمهيداً للتوافق، فإن الحاجة تشتد في مرحلة ما بعد التأسيس إلى جهد التفاوض، والسعي إلى التوافق، فنحن نتحدث عن التوافق على دستور، وما يتضمنه من إنشاء خمس سلطات عليا في الدولة: المجلس الأعلى للاتحاد، ورئيس الاتحاد ونائبه، ومجلس وزراء الاتحاد، والمجلس الوطني الاتحادي، والقضاء الاتحادي، وتحت كل واحدة من هذه العناوين ثمة مئات أو عشرات المئات من التفاصيل، وكل هذا تم التوافق عليه بين سبع إمارات.
ونتحدث عن التوافق على أهداف هذه الدولة ومقوّماتها، والتوافق على دعاماتها الاجتماعية والاقتصادية، والتوافق على توزيع الاختصاصات التشريعية والتنفيذية والدولية بين الاتحاد والإمارات الأعضاء، والتوافق حول تشريعات كبرى سارية في كل شبر منها، تشمل تشريعات العمل والتأمينات الاجتماعية والملكية العقارية والبنوك والتأمين والثروة الزراعية والحيوانية والقوانين المدنية والجزائية والشركات وغيرها الكثير.
وهذا كله جانب من جوانب التوافق فيما يتعلق بترتيبات البيت الإماراتي من الداخل، وقل مثل هذا وأكثر عن السياسة الإماراتية الخارجية، في منطقة لا تهدأ فيها طبول الحرب في أوقات السلام، ولا تتوقف فيها أصوات المدافع في الأوقات الأخرى، والتعامل مع هكذا أوضاع نصف قرن كامل، بصوت واحد موحّد، دليل بعد آخر على المهارة غير العادية للإماراتيين في التوافق فيما بينهم.
قامت هذه الدولة على التوافق، وهي ماضية في التوافق، وهي مهارة الإماراتيين جيلاً بعد جيل، حُرمت منها شعوب أخرى في المنطقة فتنازعت وفشلت وذهبت ريحها.

*كاتب إماراتي