هو الاختيار المتمثل في المعتزلة والفلاسفة والفقهاء ومجموعة الأصوليين بل وبعض الصوفية أنصار «حكمة الإشراق»، فعند المعتزلة العقل والنقل واحد. والإنسان قبل النقل متعبد بالعقل. وتأويلا لآية (وما ?كنا ?معذبين ?حتى ?نبعث ?رسولا)، ?الرسول ?هو ?العقل. ?والعقل ?مناط ?التكليف. ?والنظر ?واجب ?بالشرع، ?بل ?إن ?الشك ?سابق ?على ?النظر. ?والأصول ?الخمسة: ?التوحيد، ?والعدل، ?والوعد ?والوعيد، ?والحسن ?والقبح ?العقليان، ?والأمر ?بالمعروف ?والنهي ?عن ?المنكر ?أصول ?عقلية ?للناس ?جميعا، ?تحدد ?علاقاتهم ?بأنفسهم ?وبالناس ?وبالله.
وعند الفلاسفة كذلك، العقل والوحي أو الفلسفة والدين شيء واحد، متفقان في الموضوع والغاية. ومختلفان في المنهج. فالموضوع هو الحقيقة، الوصول إلى المعرفة والحصول على السعادة. منهج الفلاسفة العقل، ومنهج الإيمان الوحي. والتعارض بينهما صراع على الكراسي والمناصب المزورة عند الكندي. ولا فرق بين الفيلسوف والنبي عند الفارابي. فكلاهما يصلان إلى الحقيقة. الفيلسوف عن طريق الاتصال بالعقل الفعال، والثاني عن طريق الوحي. الأول يدرك الحقائق مباشرة لأنه يخاطب الخاصة. والثاني عن طريق التخيل لأنه يخاطب العامة. عند الأول السعادة هي المعرفة، وعند الثاني السعادة هي تطبيق الشريعة. نموذج الفلاسفة في رواية «حي بن يقظان»، الذي استطاع بالعقل الطبيعي الوصول إلى حقائق الإيمان عند ابن سينا وابن طفيل. ويؤول ابن سينا الحروف في «الرسالة النيروزية»، كما يؤول بعض السور الصغرى.
بل إن بعض الفقهاء المعروفين بأنهم أنصار «التنزيل» في مقابل أنصار «التأويل» يقولون أيضاً باتفاق العقل والنقل كما عبّر عن ذلك ابن تيمية بوضوح في «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» و«درء تعارض النقل والعقل». وعند الأصوليين من شروط التواتر الاتفاق مع الحس والعقل. ودليل العقل هو المصدر الرابع من مصادر التشريع بصرف النظر عن تسمياته، العقل، الاستصلاح، الاستصحاب، القياس، الاجتهاد. فكلها طرق لاستنباط الأحكام. ويقوم التعليل على استنباط الحكم من الأصل، وهو عمل العقل، واستقرائه في الفرع وهي مهمة الاستقراء.
بل إن حكماء الإشراق من الصوفية مثل «السهروردي» وضعوا منطقاً إشراقياً يجمع بين العقل والإشراق. فحكيم الإشراق هو المتوغل في البحث.
وفي العلوم النقلية وكما هو معروف في علوم القرآن أول آية نزلت هي «اقرأ». والقراءة تعني العقل والتدبر والفهم وليس مجرد فك رموز أو حروف الأبجدية. وفي علوم الحديث الاتفاق مع الحس والعقل شرط التواتر، وهو الحديث الصحيح. وتقوم بعض اتجاهات التفسير على العقل مثل «الكشاف» للزمخشري، القائم على منهج التفسير بالمعقول وليس بالمأثور. كما تقوم بعض الاتجاهات المعاصرة في كتابة السيرة بتطبيق العقل في الروايات واستبعاد كل ما يتجاوز حدود العقل مثل روايات المعجزات. وفي الفقه، العقل شرط التكليف، والبلوغ شرط أداء الأركان.
وعند ابن رشد النظر واجب بالشرع في فتواه الشهيرة في «فصل المقال» رداً على سؤال: هل الفلسفة واجبة بالشرع أو محظورة أو مكروهة أو مباحة؟ فالنظر هو الاعتبار. والاعتبار هو الفلسفة أي التأمل في الطبيعة وفي النفس، «وفي ?الأرض ?آيات ?للموقنين، ?وفي ?أنفسكم ?أفلا ?تبصرون»، ?«سنريهم ?آياتنا ?في ?الآفاق ?وفي ?أنفسهم ?حتى ?يتبين ?لهم ?أنه ?الحق».
والدليل العقلي له الأولوية على الدليل النقلي. والحكمة هي «النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان». والفيلسوف لا يقبل إلا القول البرهاني، وليس القول الجدلي للمتكلم أو الخطابي الأشعري الصوفي. والحسن والقبح في ذاتيهما مثل المعتزلة وليست أحكاماً شرعية، والقياس ليس بدعة نظراً لوجود القياس الفقهي. فالنظر في كتب القدماء واجب بشرط ذكاء الفطرة والعدالة الشرعية والفضيلة العملية والخلقية.
والغاية من «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» إيقاف التقليد والحث على الاجتهاد عن طريق العودة إلى مسائل الاتفاق والاختلاف لإعادة النظر فيها والحكم عليها وإعمال النظر في أدلتها والتحقق من صدقها. وهو ما يتضح من عنوان الكتاب. وشروط الاجتهاد والعلم باللغة العربية وبأصول الفقه. والقياس هو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به، كما هو الحال عند أهل الظاهر. والفقه لا يتعارض بين العقل والتجربة. وإنْ وقع تعارض بين النص والقياس، ولم يكن بالإمكان الجمع بينهما يُغلب العقل على النص على الرغم من ظاهرية ابن رشد. فالأصل لا تصح العبادة من غير عاقل. وحديث «لا وصية لوارث» يطابق العقل. والعقل يقين، والنص ظن.
*أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة