قبل عقد من الآن، كان العالم يعيش مرحلة ما بعد أسوأ أزمة اقتصادية تلم به منذ ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الأسواق المالية قد استقرت، ولكن الاقتصاد الحقيقي كان لا يزال في حالة سيئة، حيث كان نحو 40 مليون عامل في أوروبا وأميركا الشمالية عاطلين عن العمل.
ولحسن الحظ، كان الاقتصاديون قد تعلموا الكثير من تجربة «الكساد الكبير»، فأدركوا أن التقشف المالي – خفض الإنفاق الحكومي في محاولة لإحداث توازن في الميزانية – فكرة سيئة حقاً في اقتصاد يعاني من الركود، ولكن للأسف، أمضى صناع السياسات على جانبي الأطلسي النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن، في القيام تحديداً بما نهتهم عنه النظرية والتاريخ، هذا المنعطف الخاطئ بخصوص السياسات أرخى بظلال طويلة، اقتصادياً وسياسياً، حيث ساعد الخوفُ الكبير من العجز خلال فترة بشكل خاص، على تعبيد الطريق لأزمة الديمقراطية الحالية.
ولكن، لماذا يُعد التقشف في اقتصاد يعاني من الركود فكرة سيئة؟ الجواب: لأن الاقتصاد ليس مثل الأسرة، التي يُعد دخلها وإنفاقها شيئين مختلفين، ففي الاقتصاد عموماً، إنفاقي هو دخلك وإنفاقك هو دخلي، فماذا سيحدث إذا حاول الجميع خفض الإنفاق في الوقت نفسه، كما حدث عقب الأزمة المالية؟ إن دخل الجميع سينخفض، وعليه، فمن أجل تفادي الركود أنت في حاجة لجعل أحد – الحكومة – يحافظ على الإنفاق، أو الأفضل من ذلك، يزيده – بينما يقوم الآخرون بخفضه، وقد انخرط معظم الحكومات في 2009 في بعض التحفيز المالي على الأقل.
غير أنه في 2010، هيمن على الخطاب السياسي أشخاص يشددون، من جانب، على أننا في حاجة لتقليص العجز بشكل فوري، وإلا فإننا سنتحول جميعاً إلى يونان جديدة، ومن جانب آخر، على أن خفض الإنفاق لن يضر بالاقتصاد لأن من شأنه زيادة الثقة، غير أن الأساس الفكري لهذين الادعاءين كان دائماً ضعيفاً، والأوراق الأكاديمية القليلة التي تدعي الدفع بحجج تؤكد على أهمية التقشف، سرعان ما تهافتت وانهارت تحت الفحص والتدقيق، ثم إن الأحداث سرعان ما أكدت مبادئ الاقتصاد الكلي الأولى: أن أميركا لم تتحول إلى يونان جديد، وأن البلدان التي فرضت تقشفاً قاسياً عانت من انكماش اقتصادي شديد.
وعليه، فلماذا كان صناع الرأي والسياسات يدعون إلى التقشف، في وقت كان عليهم أن يحاربوا البطالة؟
أحد الأجوبة، وهو جواب لا ينبغي التقليل من شأنه، هو أن التنديد بسلبيات العجز يجعلك تبدو شخصاً مسؤولاً، على الأقل في أعين الأشخاص الذين لم يدرسوا الموضوع، أو يواكبوا حالة البحث الاقتصادي، ولهذا كنتُ أسخر من الوسطيين والشخصيات الإعلامية التي كانت تشدد على الحاجة إلى التقشف، باعتبارهم «أشخاصاً جادين جداً»، وبالفعل، فإلى اليوم، يتصور المليارديرات الذين تحدوهم طموحات سياسية، أن التحذيرات الشديدة بشأن الدين، إنما هي دليل على جديتهم.
وعلاوةً على ذلك، فإن الدعوة إلى التقشف كانت تحركها دائماً، وإلى حد كبير، دوافع خفية، إذ كانت المخاوف بشأن الديون تُستخدم، بشكل خاص، كذريعة لخفض الإنفاق على البرامج الاجتماعية، وكذلك كذريعة لتقييد طموحات حكومات يسار الوسط.
هنا في الولايات المتحدة، أمضى «الجمهوريون» كل حقبة أوباما في ادعاء قلقهم العميق بشأن عجز الميزانية، ما أرغم البلاد على دخول سنوات من خفض الإنفاق الذي أبطأ تعافي الاقتصاد، غير أنه في اللحظة التي انتقل فيها دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تبددت كل تلك التخوفات المفترضة، ما أكد صحة ما كنا نقوله من البداية، من أن «الجمهوريين» الذين كانوا يتظاهرون بأنهم «صقور» في الميزانية، ليسوا سوى مدّعين.
ولكن، لماذا يُعد هذا التاريخ مهماً؟ فعلى كل حال، معدلات البطالة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا في هذه المرحلة باتت قريبة من مستويات ما قبل الأزمة أو تحتها، وربما كان ثم الكثير من المعاناة غير الضرورية في الطريق إلى ذلك، ولكن ألسنا على ما يرام الآن؟ كلا، إننا لسنا على ما يرام، ذلك أن سنوات التقشف تركت الكثير من الندوب، وخاصة في السياسة.
ولا شك أن هناك عدة تفسيرات للغضب الشعبوي، الذي عرّض الديمقراطية للخطر عبر العالم الغربي، ولكن التأثيرات الجانبية للتقشف تتصدر القائمة، ففي أوروبا الغربية، وصلت الأحزاب القومية البيضاء إلى السلطة، بعد أن استعدت حكوماتُ يسار الوسط الطبقةَ العاملة، بسبب تبني سياسات تقشفية، إما نتيجة التنمر أو الاقتناع، وفي بريطانيا، يتركز الدعم الأكبر للمتطرفين اليمينيين على الخصوص في المناطق، التي تضررت كثيراً من التقشف المالي، ثم هل كان ترامب سينتخَب لو أن سنوات من التقشف لم تؤخر التعافي الاقتصادي في عهد باراك أوباما؟
وفضلاً عن ذلك، أعتقد أن هوس التقشف قد أضر بمصداقية النخب على نحو قاتل، فإذا لم تعد الأسر العاملة العادية ترى بأن النخب التقليدية تعرف ما تفعل أو تكترث للأشخاص مثلهم، فإن ما حدث خلال سنوات التقشف يؤشر على أنها على حق، باختصار، إننا في الفوضى التي نوجد فيها اليوم، بسبب المنعطف الخاطئ الذي اتخذته السياسات قبل عقد من اليوم.

*كاتب وأكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

Canonical URL: https://www.nytimes.com/2019/12/30/opinion/deficits-economy.html