وشاعرنا اليوم هو المتهم بجَمَالِهِ!
كيف يكون الجمال تهمة؟!
«حتى أعَرْف اكتب رضايْ..
أحتاج للزعل القديم نفسه!
وحتى أعَرْف اشْكِثْر كانت حلوة الهمسة..
أحتاج للحبّ اللي جايْ!».
في قاموسه، المليء بالمعاني التي لا تخطر على بالك، لكنك لا يمكن أن تُنكِر صحتها، هذا ممكن!
متهمٌ بجمالٍ، لا يُقَاوَمُ داخلَ القصيدةِ. تأمل شكل المسرح في مشهد بيت شعر يقول فيه:
«نادت: مشاري! صاحوا الخلق: لبيه        من زينها، كل الخلايق مشاري!»
يزعم دائماً، وهو يمارس تواضعاً هنا، أنه أجمل في ثنايا القصيدة، من كل أحد!
«واجبي ما أتواضع وحين اغترّ..
حَقّ.. لا هو نهيبه ولا استجدا!
يكفي انّه يكون ف.. يدِي دفتر..
لجل اخلّي صباحاتهم أندى!
وآتمايل بعِقْل وتطيح «غْتَرّ»..
وآتمرّى والايّام «تتفهدا»!.
شاعرنا يحسنُ الغياب بمقدارٍ، يعبئ فيه جمهوره بالشوق، حتى يكاد الشوق يبلغُ التعب، فيختار وقت الحضور، لأنه سيد الضوء، وسارقه الأكبر، حين يَهِلُ.
«إن ما كتبت من الشعر شي تلقاه..
مُستقبل الأيام من ذكرياته!
أسكِتْ وطلّاب العذر خاب مرقاه..
ما همّني لو هو كثير التفاهة!
أقلّ ما في ذمّة البحْر: غرقاه!..
مشغول في تجديد ذاته بذاته!»

تذكرتُ، وأنا أبحثُ لأكتب منه عنه، الرجلَ الذي يُلَملِمُ دَمعَهُ، حينَ يَذكُرُ والِدَهُ الذي لم يَرَهُ...
«كان ياما وياما كان من ذكرياته..
جمعة أطفال والملعب على كل رايْ
يركض اللي يشوف آبوه وارسم جهاته..
واركض افتح يديني وآتخيّلْه جاي!»
وهو الأبُ، الذي من وفائه، أراد أن يُسمي على أُمِّهِ منيفة، لأنه تعلم الوفاء، من أمه الباسقة سمواً، الفارعةِ حكمةً، فتلطفت الجّدَةُ بالحَفِيدَةِ، الحفية، واختارت لها اسم نوف... يقول في وصايا أمه، حفظها الله:
«معي في الذاكرة بنتٍ توصيني بمشط وشال
وصوت أمي يوصي لا تجي ربعك بخاطر عمس
وأنا أمك لاتنام بليلةٍ وأنت خلي البال
وخل أدنى طموحك لانظرت لنجمتين اللمس
وأنا أمك لاصعدت اصعد مثل دعوة فقير الحال
ولامنك نزلت انزل مثل غيثٍ بيحيي غرس
وعلى حد العطش ارسم فمك غيمة وخمس أطفال
وعلى حد الظلام اشعل يدك عصفورتين وشمس»

هو الشاعرُ المولودُ، أقربَ مني للبحرِ:
«ويا أزرقْ..
يا بُعدْ وقُربْ
يا لمحه في العيون الغُرْبْ
ياسقف الكونْ
يا لون اللونْ
يا حبر أقلامنا المعجونْ
بالفوضى، وطين العاقل المجنونْ..
يا أزرقْ:
من اللي يعْرِف اأنّ البحر هيّن؟!
قال: من يغرق!»
والأكثرُ غَوصَاً، بمرتين أو ثلاث، من جل من أعرف، في بحور الخليل.
الطيور التي ولدت، في صدر شاعرنا السعودي، الجميل، فهد عافت، نهار ميلاده، بالجهراء، في أواخر 1966، تهوى الاستراحةَ على جهاتِه الأربع:
«لين استراحت على غصني طيور أربعة
الوزن والقاف والمعنى وروح القصيد
واخترتْ لحظة يغطّ الزعفران اصبعه..
في القلب، ولكل شاعر وقت، والشعر: صيد!»
الصحافي اللامع، والشاعر الذي يمتلئ بالغرور، من عجائبه، أن غُرُورَهُ، صديقٌ حميمٌ للتواضُعِ، إلى درجةٍ، لا تُغضِبُ التواضعَ من غروره بتاتاً، بل تراه محرضاً عليه!
«يا ليلةٍ ليلها زرنيخ منفى يابسٍ بُور..
لي ليلةٍ كان حضن أم وثلاث أيتام وصغارْ!
ليل آتشمشم به اللي مرّ نكهة خبز تنّور..
وليل آتجشّم به أهوالي لحالي واصبح كثار!.
أنا أصدق الناس وأعدلهم وأنا البهتان والزّور..
يا قطعة النّردْ شوفي وش بقى لي بي من اعذار!»
حين يباري المحبرة، لا أحدَ يَسبِقُهُ، فهو طيِّبٌ، لدرجة أنه لا يريد لأحد أن يخسر!
«المحبره:
قطعة سما محبوسه في خاتم قزازْ
تُصبّ للشاعر شويّة رتْم وشويّة مَجَاز!»
ثمة، ملاحظة هنا، طيّبٌ، في الجملة السابقة، يستخدمها صاحبنا بالمعنى الحضري، وعياً ومعرفة بهذا القاموس، كما القاموس البدوي. إنه الناثرُ، الهاربُ من فَمِ القصيدة، وصاحِبُ القِصَصِ القصيرة، ونهاياتها، دائماً، كأفلام الأبيض والأسود، على أنها ذات لون أبيض فقط، مفادها كل حين: «أشتاق لمن لا أعرف»!.
فهد عافت، المُقِّرِ- من دون خجل- بنومه على الرصيف ذات فقرٍ، هو ملاعبُ المطرِ، مرة لأعلى، ومرتين... لاتجاهات لا نعرفها، وربما يعرفها من يعكف على دراسة قاموسه، الحفيِّ بالجغرافيا، أيضاً!
«يرتِحِلْ..
يرتِحِلْ..
أرّخَتْه شفاه عذرا..
قبّلَتْه بشهوةٍ ثَيِّبْ..
وجَغْرَفْه الكِحِل!»
يَحُطُ عافت، للشمسِ المَطايا، ويُصَوِّتُ، في كل الاتجاهات، بالعشاء كرماً، وبالشعرِ جوداً، لكنه يأبى أن يغادِر ضيفه، من دون أن يتناول الحلوى، ولن يحتارَ في تحضيرِ قائمة اختيارات. فأي بيت شعر له، يصلح طبق حلوى فاخراً.
الحول، في عيني حبيبته، مادة للغزل، والجمال، والعهدة على قاموسه الجميل:
«بعيونها مسحة حول يا حلاها            حور وأغايظها وأقول الحلا فيك
والصدق، تدري عيونها وش بلاها؟!            من زينها، هذي تبي مشاهدة ذيك!»
سينمائيٌ يُشعلُ، «فتنة الحفل»، قبل أن يبدأ اللحنُ والنشيد:
«من غدا الليل شعرك قلت أنا بسهره    
ومن غدا الصبح وجهك قلت مالي مقيل
ارقصي بين حد الذنب والمغفرة    
ارحلي في سكونك واسكني في الرحيل
ارجفي كنك الماء فززته حجرة    
واثبتي كنك الفضه بعين البخيل
وانحني مثل غصن في طرفه ثمرة    
واوقفي مثل فزعات بدوي أصيل»
وشاعرٌ يؤمن بالشِعرِ، إلى أقصى حد:
يا علي لا الشعر عبدي ولا هو سيدي    
صاحبي له من جنوني ولي من منطقه
ما يخون الطيش والملح يا كود الردي    
له علَي أن ما سبقني على الطيب اسبقه
والله إني من عرفته وأنا أبشر بسعدي
كل حزنٍ يفتح أبواب حسنٍ مغلقه
والله إني ما ذخرت لمعانيه جهدي    
ذمني ولا مدحني من يقول سرقه
ثم يسلم بمآلات الشاعر، القديمة المتجددة:
«هذا هو الشاعر
من الله خلقه
في الآخر... الآخر
مرده لورقه!».
كلما أردت الاقتراب من اسمه، أتعثر فيه، بقوله:
«خَلِّنِي فِيْك ضَايِّع لَين أَدِل
وانهِزِم مِنِك لَين ارتَد ظَافِر».
الأوصاف عنده، كصلصال في يد نحّاتٍ، مُبْدِع، يعيد تشكيل المنحوت، كل قليلٍ، كما يشاء، كما لم يكن من قبل!
عن كثير أوصافه، يكفيني السَهَرِ، الذي كلما أتعبني بينه وبني عمومته الشعراء، أقصر أطراف الليلِ بتنهيدته:
«السهر، ما هو بهذا السهر... لا يا بعدي!
السهر شفني تعرفه، وشفني تزهقه
كل جفنٍ من جفوني غدى بيت أجودي
لا تَقَضَّب فيه عبدٍ من الليل أعتقه».
هو سيد التواصيف، وملاعب الجناس والطباق، والحكيم الفيلسوف، بل البدوي الذي تزدان مدننا بلفتات ذهنه الوقاد.
لم هو سيد التواصيف؟! أجيبك بوصفه لعلاقة محبوبته بمرايتها، يقول:
«عجزت امرايته فيه اتشبه         حاولت فيه مير عجزت تجيبه»
نشأ شاعرنا يتيماً، فزاد اليُتمُ حاسَتَهُ نحو العالم، حتى صهر حروفه بالمعاناة، فانصاعت له اللغة، وأمسك بناصيتها.
يمكن أن يباغت فهد عافت، القارئ إيجابياً بأسئلة، حول جمال القبح، أو عدوان الكاميرا، أو موت المؤلف، ويُبَسِّط له نظريات الثقوب السوداء، بكل سلاسة ويسر.
ثقافته الموسوعية، انعكست على شعره بوضوح، وعلى شخصيته بتواضع، يقول: «أنا من الذين كانت القراءة أندى غرامياتهم، وفي منتصف الطريق، تأكد لهم، أنهم مجبرون على الحب من طرف ثالث»!
بينما يحدثك فهد عن قصيدة حول التكوين، والذات، والبدايات، وتعب السنين، تجده ينتقل محدثاً مجالسيه بتشويق ومن دون تكلف، عن روايات مدام بوفاري، وأمين معلوف، وفيلم الجوكر، وكتاب لارولان بارت، ولذلك يرى أن «الصورة لقياس التقدم المدني في أي دولة: حقوق المذنب! والصورة لقياس التقدم الحضاري في أي مجتمع: حقوق المبدع»!
إنه شاعر نادر، ضمن رؤية خاصة استثنائية، لا تحركه رغبة الجمهور للإنتاج الأدبي،
«عبَث تِحْسِبْ سنيني بالسنين وتكسر المكسور..
عَبَثْ ترمي بدَلْوَكْ في القديم وتجذب أعماقي!
أنا الذّابِل ما بين الميكرفون ورغبة الجمهور..
عشان أحيا مثل ما لازم أحيا داخل أوراقي!»
لكنه يجذبهم معه نحو أسئلته، فلا يمكن تخيل شعر عافت من دون أن تبهرك شرر جمر الأسئلة.
(وأحيان أوقّف عدوّي واسأله: أيّنا..
بنا أنا؟ وايّني بك جمرةٍ قايده؟!
في صوت فيروز أنا الصفصاف والميجنا..
وأنا مع «حجاب» شرق وطايره عايده!)
بالعودة إلى قاموسه، نختم حيث تعريف الكتابة، بقوله:
«الكتابة: إبرة ٍ مثقوبةٍ...
من لا مكان...
في لا زمان...
إبرة ٍيدخل بها خيط الدخان...
وينسج الشاعر ثيابه!».