صرح الكاتب «جوناثان فرانزن» عام 2016 لأحد الصحافيين بأنه لم يؤلف إطلاقاً كتاباً واحداً عن المسألة العنصرية لأنها «اعتراف مزعج ومربك، فليس عندي أصدقاء سود كثيرون. لم أغرم أبداً بأي امرأة سوداء، واعتقد بأنه لو حدث ذلك لتجرأت».
يعني أن غياب التجربة المباشرة الإنسانية تمنعه من تخيل شخصية من عرقٍ يختلف عن عرقه، فكأنه خضع لعصر متشكلٍ من الفضائح المتكررة: الإبداع ضمن حدود الهوية، أي البقاء في النفق أو في الممر ذاته. وإذا أردنا توسيع هذا الموقف فيمكن أن نتوصل إلى ما يمكن وصفه ليس فقط بالقطيعة الآنية والمعرفية بل التاريخية، أي بالماضي والحاضر أيضاً وعلى مختلف المستويات الأدبية والفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية. أنها الأفكار المجمدة بكل مدلولاتها الإدراكية والمعيشية الثابتة. كل فرد (أو جماعة) يتوقف عن حدودها الوهمية المرئية. كأننا نعبر عن سلبية مطلقة تجاه المفاهيم التي ورثناها لنسمح لها بأن تفكر عنا وتبدو حاسمة غير قابلة للنقد أو للجدل عندما نفقد ترف التفكير. كأنما الصراع بين الحضارات بالمعنى الإيجابي يتحول صراع بين الذاتيات التجريدية لكن بمفعول سلبي أي عبثي ولا معقول.
يقول الشاعر الأميركي الكبير «وايت ويتمان»: «أعدِ النظَر بكل ما قيل لك وسمعته وأرم كل ما يهين نفسك»، أي بكل ما يؤدي في نتائجه إلى مفهوم التماثل العمومي أو التشابه الخصوصي ليصبح طريقة وجود عندنا: لا نستطيع ولا يجب علينا أن نكتب إلا عن أناس هم مثلنا: عرقياً جينياً وطنياً سياسياً وشخصياً، وكذلك بكل أسف شعرياً ومسرحياً وفنياً. أي نكتب من ذاتنا إلى ذاتنا، التي باتت غير قابلة للترميم أو للتغيير أو حتى للمس بقدسيتها أي للتبادل أو لأي رفض كل ما ليس فينا ومنا. اعتبار ما فينا ملكية تاريخية خاصة لا يجوز لمن يفترض أن عندهم ملكيتهم الخاصة اجتيازها.
إنه قانون القطع عبر التماثل، ومفهوم العزلة عبر التشابه.
وإذا عدنا إلى ما عايشناه ونعيشه حالياً في العالم نجد أن هذه المفاهيم وكأنها استفاقت بكل حيويتها وماضيها المقولب بعدما خلنا أنها قد نامت منذ الثلاثينات، زمن الجدران الحديدية، في الاتحاد السوفييتي وجدار برلين وانقسام العالم في متونٍ إيديولوجية وفكرية وسياسية من شيوعية ورأسمالية وفاشية. بمعنى آخر أنه زمن الحروب المستعادة سواء الباردة أو العنيفة.
سقط جدار برلين واحتفل العالم الحر بسقوطه، لكن مئات الجدران والأسوار ترتفع اليوم، والتي يمكن اختزالها بمسألة الهوية على امتداد فروعها وألوانها وأشكالها، حتى تحول بعض العالم وحتى أوروبا إلى ما يشبه الكانتونات والانفصالات كل كانتون يضم جماعات متشابهة إثنية أو دينية أو مذهبية لا يعترف أحدهم بالآخر ويجافيه وينكره ويكرهه وينبذه: إنه مفهوم الكراهية، أي قتل المختلف بطريقة أو أخرى مما يؤدي إلى قتل الذات. وقد يتجاوز ذلك الجغرافيا والديموغرافيا إلى الأدب وسواه من فنون التعبير عن الفرد أو الجماعة: رفض كل ما يختلف عني بالأسلوب أو بالطريقة أو بالمضمون أي مج كل فكرة لا تذوب في فكرتي.
رأينا ذلك في صراع بعض المذاهب الأيديولوجية المسرحية والشعرية والفنية والفلسفية والسياسية طبعاً. ونتذكر كلام الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: «الآخرون هم الجحيم».
فإذا كانت الأيديولوجية الفلسفية، وهي لغة العقل والمنطق، على هذه الشاكلة فما بالك بالأيديولوجيات الغريزية أو الدينية المعبر عنها اليوم بالمذهبية أو الإثنية أو الحزبية، بل كأن كل حزب أيديولوجي صار بقوة تماثلاته الداخلية مجرد كانتون إما تكفيري أو تخويني أو إلغائي، مثلاً عندنا في لبنان لكل رئيس طائفة تليفزيونه الخاص وجريدته، وجمهور كل زعيم بكل أسف لا يقرأ سوى جريدته المذهبية، ولا يشاهد سوى تليفزيونه الخاص باعتبار أنه يملك الحق والحقيقة أما الآخرون فضلال بضلال.
إنها قطيعة معلنة بوقاحة صافعة أي اختلاق، انقسامات عمودية بين ذواتنا المكتملة المباركة وبين الآخرين الملعونين.
وإذا شئنا أن نبحث عن مصطلح يوحي هذه الظواهر المَرَضية ليس هناك أبلغ من عبارة «الانحطاط الشامل».
قال سقراط: «اعرفْ نفسَك» ونقول «إعرفْ غيرك تًعرفْ نفسك».
*كاتب لبناني