اشتدت الصراعات حول أسواق الغاز العالمية، وبالأخص بعد أن فشلت جهود إقامة منظمة لتصدير الغاز على غرار منظمة البلدان المصدرة للنفط «أوبك»، علما أن حصة الغاز الطبيعي تتزايد باستمرار في ميزان الطاقة العالمي، إذ يعتبر أحد هم مكونات الطاقة النظيفة نسبياً.
التقارير والبيانات تشير بوضوح إلى أنه من بين البلدان الرئيسة المصدرة للغاز حالياً(روسيا، قطر، إيران والجزائر)، إضافة إلى النجوم الجديدة التي تبرز بصورة سريعة في تصدير الغاز (الولايات المتحدة، وأستراليا)، فإن روسيا تعتبر البلد الأوفر حظاً ليكون لها القول الفصل في صناعة الغاز في العقود القادمة، وذلك لأسباب جغرافية وموضوعية عديدة.
يمكن تلمس بعض التوجهات المستقبلية التي تؤكد هذا الاستنتاج من خلال سياسات مختلف الدول المصدرة للغاز، فروسيا تأتي من ضمن أكبر ثلاث دول مالكة لاحتياطيات الغاز الطبيعي، كما أنها المزود الأول لأوروبا باحتياجاتها من هذه المادة، حيث تهيمن على 40% من الواردات الأوروبية من خلال الأنبوب الممتد عبر أوكرانيا أساساً.
والحال، فإن روسيا لم تكتف بذلك، بل إن مشاريعها التي نفذت مؤخراً، أو تلك التي تحت التنفيذ حالياً تتعدى الطاقة التصديرية لخط أوكرانيا، مع تركيزها على أسواق استهلاك الغاز المستقبلية الرئيسة، ففي بداية شهر ديسمبر الماضي دشن الرئيسان الروسي والصيني خط أنابيب جديداً «قوة سيبيريا» أو «باور أوف سيبيريا» لتزويد الصين بالغاز الروسي، والذي يمتد على مسافة ألفي كيلومتر من سيبيريا إلى الصين ليتم تمديده مستقبلاً بطول ثلاثة آلاف كيلومتر بتكلفة 55 مليار دولار، صاحبه توقيع اتفاق لمدة ثلاثين عاما بقيمة 400 مليار دولار لتزويد الصين بنسبة 10% من احتياجاتها من الغاز.
هذا في الشرق، إما في الغرب، فإنه بالإضافة إلى خط أوكرانيا الذي تحيط به الأزمات والتوقف بين الحين والآخر، فإن هناك خطين مهمين يتم تشييدهما بين روسيا وأوروبا، الأول خط نورد ستريم «التيار الشمالي» أو الخط الألماني الروسي، والذي يعبر بحر البلطيق، إضافة إلى خط الغاز المسمى ساوث ستريم او «التيار الجنوبي»، أو«شرق – غرب»، والذي يمر عبر تركيا ورومانيا ودول البلطيق، وصولاً إلى إيطاليا.
هذا الخطان تعارضهما واشنطن بشدة بحجة «أمن الطاقة الأوروبي» على الرغم من أن الأسباب الاقتصادية والتجارية تقف خلف هذه المعارضة، ففي الآونة الأخيرة تحولت الولايات المتحدة الأميركية إلى أهم مصدري الغاز بفضل إنتاجها من الغاز الصخري، إلا أنها تفتقد لميزة النقل الرخيص عبر الأنابيب، والذي يتفوق سعراً وسهولة على النقل بناقلات الغاز المكلف والمعقد من خلال تحويل الغاز إلى سائل، ومن ثم إعادته من جديد للحالة الغازية.
هذان المشروعان سيمضي تنفيذهما قدما ولن يستطيع أحد إيقافهما بسبب الإصرار الأوروبي والروسي واللذين يغلبان مصالحهما على أية اعتبارات أخرى، علما بأنهما يشكلان تحدياً أكبر لمصدري الغاز، كقطر وإيران والجزائر، فهذه الدول، باستثناء خط محدود للجزائر لا تملك خطوطاً لإمداد الغاز وتعتمد أساساً على خطوط الناقلات المكلف جداً.
السبب الأساسي لغياب خطوط إمدادات الغاز من هذه الدول يكمن في سياساتها المتوترة مع جيرانها، والتي من دونهم لا تستطيع المنافسة مستقبلاً، وسيؤدي بها إلى فقدان بعض أسواقها.
*مستشار وخبير اقتصادي