كان  قاسم سليماني، الرجل الثاني في «الحرس الثوري»، وكان يعتبر نفسه محصَّناً، فقد كان يعتقد أن أهميته داخل النظام تحميه، وأن المساس بحياته من شأنه تفجير حرب لا يرغب الأميركيون في اندلاعها، والواقع أنه كان يمكن أن يُقتل قبل فترة طويلة، غير أن الأجهزة الأمنية الأميركية آثرت عدم الإقدام على هذه الخطوة التصعيدية، لكن، لماذا فعلتها الآن؟ ولماذا قامت بالرد هذه المرة، ولم تقم بذلك عندما تم إسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية، أو عند مهاجمة البنى التحتية النفطية في منطقة الخليج؟
الخط الأحمر الذي تم تخطيه كان من دون شك محاصرة السفارة الأميركية في بغداد، هذا الأمر أيقظ في واشنطن ذكريات صادمة لأزمة الرهائن عام 1979-1980، عندما تم احتجاز 52 دبلوماسياً أميركياً طيلة 444 يوماً، كان ذلك صادماً للأميركيين الذين عاقبوا جيمي كارتر في الانتخابات، وحرموه من إعادة الانتخاب في 1980، ويمكننا أيضاً تذكر إخلاء السفارة الأميركية في سايغون عام 1975، عندما قام «الفيتكونغ» بغزو فيتنام الجنوبية، خلافاً لاتفاقات السلام الموقعة في 1972.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوجد في حملة انتخابية، وناخبوه، وعلى غرار أغلبية الأميركيين، يتذكرون مأساة عام 1979، وبالتالي فإن إظهار القوة لا يمكن إلا أن يعبئ كتلة ترامب الناخبة على نحو يخدم مصلحته، وعليه، فقد اتخذ الرئيس هذا القرار لأسباب داخلية بالأساس، وربما دون التشاور مع حلفائه، غير أن هؤلاء الحلفاء لن يحزنوا على موت شخص يعتقدون أن يداه ملطختان بالدماء، فقد كان رجل العمليات العسكرية الخارجية، سواء تعلق الأمر بدعم «حزب الله» اللبناني، أو بمساعدة بشار الأسد على سحق المعارضة المسلحة في سوريا، أو بترسيخ سطوة الميليشيات الشيعية في العراق، أو بتقديم المساعدة للحوثيين في اليمن.. وفي الآونة الأخيرة، كان هو من قاد قمع المتظاهرين العراقيين، الذين كانوا يحتجون على التدخلات الخارجية في بلدهم.
غير أن ما يثير قلق بعض حلفاء الولايات المتحدة، هو الطريقة التي تستخدمها واشنطن، إذ لم تخبرهم ولم تتشاور معهم، وأهم من ذلك أنهم لا يريدون تصعيداً عسكرياً، لا تستطيع المنطقة تحمّل عواقبه.
وأمام التهديدات المتبادلة بين الولايات المتحدة وخصومها في المنطقة، يُثار السؤال: هل نحن بصدد حرب عالمية ثالثة كما يرى البعض؟ أو بصدد حرب «منضبطة» بين طرفين فحسب؟ الجواب هو: كلا، ومع ذلك يظل الوضع يظل مثيراً للقلق، فلا روسيا ولا الصين ستهب لنجدة الطرف الآخر في مواجهة الولايات المتحدة، وهذه الأخيرة، وقد تعلّمت دروساً من إخفاقاتها في العراق، لن تقوم بغزو بلد آخر يفوق عدد سكانه ثلاثة أضعاف سكان العراق، لا سيما أنه لن يقدم على عمل عسكري مباشر آخر ضد الولايات المتحدة، بالنظر إلى الفجوة الهائلة في ميزان القوة بينهما، وإن حاول من خلال أذرعه في المنطقة مهاجمة بعض المصالح الأميركية في أفريقيا أو أميركا اللاتينية، وقد سبق أن رأينا، قبل بضعة أيام، ضربات ضد قاعدة عسكرية في كينيا، وفي ليلة 8 يناير، ضربات استهدفت قاعدتين أميركيتين في العراق.. مع ميل للاكتفاء بممارسة الضغط من خلال الميليشيات الشيعية العراقية، بغية إرغام الأميركيين على مغادرة قواعدهم، وعلى شل عمل سفارتهم في بغداد، وبالفعل فقد طلبت الولايات المتحدة من مواطنيها مغادرة الأراضي العراقية.
وختاماً، إذا كانت حرب 2003 قد فتحت باب العراق أمام جيرانه الكبار، فإن الخطر الآن هو أن يفتح موت سليماني الباب أمامهم أكثر من ذي قبل؛ فمشاعر معاداة أميركا ارتفعت في العراق، حيث يلوم العراقيون واشنطن لانتهاكها سيادتهم بشكل خطير، والضغط من أجل مغادرة الأميركيين العراق قد يزداد ويرتفع.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس