لم يتوقع أحد أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية بهذه الضربة المركّزة والدقيقة والخاطفة، والتي يبدو أنها جاءت بعد رصد ومتابعة، لتصفّي  «قاسم سليمان»، قائد «فيلق القدس» ومسؤول خطط سياسات التوسع الإقليمي عبر المليشيات المسلحة التي طالما شكلت أدوات وأذرعاً عسكرية لذلك التوسع، ومعه أحد أهم قادة «الحشد الشعبي» العراقي، وهو «أبومهدي المهندس» الذي تدرب في حضن «الحرس الثوري» وقوات «فيلق القدس» التابعة لها، وحارب ضد بلده العراق لعدة أعوام. لقد قامت الولايات المتحدة بتصفيتهما معاً، وفي ضربة واحدة داخل السيارة التي كانت تقلهما من مطار بغداد.
أقول: لا أحد كان يتوقع ذلك، لأن الولايات المتحدة هي التي سلّمت العراق على «طبق من ذهب» لفيلق القدس وقائده سليماني، بعد احتلالها بلاد الرافدين عام 2003. ورغم استمرار المليشيات الطائفية المسلحة (وغير المسلحة)، والتي كثيراً ما رفعت الشعار الممجوج «الموت لأميركا»، في التمادي باستفزاز الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، لم تحرك السياسة الأميركية ساكناً ضد هذه المليشيات وممارساتها العنفية المتواصلة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، حيث احتلت دولاً عربية ومارست البطش والقتل والتهجير ضد آلاف المواطنين العرب، وخصوصاً المكوّن السنّي في كل من العراق وسوريا.
وظن الكثير من المراقبين للمشهد العراقي، أنه ربما كان هناك نوع من التواطؤ والتنسيق والتناغم بين واشنطن وبعض خصومها في المنطقة، لتُقاسِمَهم الغنائم في العراق الجريح الذي تقطعت أوصاله.
لكن هذه القوى الطائفية التي أوصلها الاحتلال الأميركي إلى سدة الحكم في بغداد، قلبت الطاولة وتمردت على أسيادها وانقلب السحر على الساحر، وما أن استولت الأحزاب الطائفية الدينية وتمكنت من زمام الأمور في العراق، حتى نفضت يدها من أميركا ورمت قبعة العم سام، واعتمرت العمامة معلنةً ولاءها لأسيادها الإقليميين.
وحين تمادى قاسم سليماني وتجاوز كل الخطوط الحمراء، وأصبح صاحب القرار الأول والأخير في العراق، نال جزاء تجاوزاته بحق العراقيين. وكان معه تابعه المليشياوي الآخر «أبومهدي المهندس» الذي عرف عنه دوره في تنفيذ أعمال إرهابية في لبنان والكويت وسوريا والعراق. وهو مهندس السيارات المفخخة القاتلة، والتي من خلالها قتل أكثر من 61 عراقياً في تفجير السفارة العراقية ببيروت عام 1981، التفجير الذي قتلت فيه «بلقيس» سكرتيرة السفير العراقي وزوجة الشاعر العربي الشهير الراحل نزار قباني، الذي رثاها بقصيدة طويلة عنوانها «قتلوك يا بلقيس»، وقد ضمّنها شجباً وتنديداً واستنكاراً قوياً لذلك الفعل الإرهابي الجبان والغادر، وطالب العالم وأصحاب الضمائر الحية فيه بأن يوقفوا مثل هذه العصابات المارقة والخارجة على القانون والعقل والمنطق ويتصدوا لها بكل قوة وحزم.
ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية، وإن كان عن غير قصد، قد أخذت هذه المرة، وبعد 39 عاماً، بثأر نزار قباني لدم زوجته بلقيس، وذلك بتصفية «المهندس» الذي هندس الكثير من التصفيات والاغتيالات في العراق وخارجه. ولو كان الشاعر نزار حياً الآن، لحوّل كل قصائده التي كان يهجوا بها أميركا إلى مديح!

*كاتب سعودي