أين صارت الخريطة العربية اليوم بأرضها وحدودها وناسها وحضارتها؟ ماذا تبقى من سكانها: عشرات الملايين السوريين هجروا أو نزحوا أو غادروا بمراكب وزوارق وسفن؟ كيف استبيحت هذه الجغرافيا على أيدي برابرة هنا أو دول هناك انتُهكت سيادتها وشُوهت هويتها وسادها ما سادها من الطامعين إلى بناء إمبراطورياتهم البائدة أو نفوذهم أو حتى احتلالهم؟ كأنه زمن الفقدان والافتقاد والفقد يطرق ذاكرتك وحواسك ومخيلتك لتنفتح مرايا وشاشات وشرائط قديمة مجهولة أو مبتكرة كأنما انفصمت عن ماضيها التليد ومستقبلها الوليد. أين المسافة التي قطعها العرب على امتداد قرنين عندما تجاوزوا مراحل التراجع والاستعمار والانتدابات إلى زمن التحرير والتنوير والدولة العصرية والهوية العربية المنفتحة على غير تزمت أو تطرف؟ أهي العصبيات الخارجية البربرية التي تكلم عنها الفيلسوف الكبير ابن خلدون تجتاح ما تجتاح من مجتمعات عرفت الاستقرار والنعمة والسلم وما هو حضاري وثقافي واقتصادي؟
تسترجع ذلك وكأنه غض حتى الدمع في عينيك وعيون أهلك وأنفاسهم: ومنذ عام 1967 (النكسة) برز سباق بين العرب وبين أعدائهم أصحاب الأجندات الاستيطانية والتوسعية والاحتلالية: ها هي إسرائيل مازالت تنهش ما تبقى من فلسطين تهود القدس وتقتطع الضفة وتهتف باحتلال الأغوار.
لكن كم إسرائيل بات عندنا اليوم؟ هنا وهناك استفاقت أمجاد الدول السابقة ومشاريعها الكبرى وأطماعها من استلهام النموذج الإسرائيلي: تحويل الأمة العربية دويلات مذهبية متصارعة برعاية أنظمة وحركات إرهابية أو عنصرية أو طائفية.
فلبنان خاضع منذ نصف قرن لانتهاكات مبرمجة واحتلالات موصلة: من النظام السوري إلى منظمة التحرير الفلسطينية فإلى إسرائيل: ثلاث قوى تقاسمته على امتداد أجيال خمسة. وها هو «حزب الله» اليوم آخر عناقيد الميليشيات المسمومة يسيطر بدعم مذهبي أو سياسي داخلي وخارجي على مفاصل الدولة وقرارات الحرب والسلم.
ها هي سوريا (قلب العروبة النابض) تمزقها خمسة احتلالات أو وصايات: تركيا إيران روسيا إسرائيل الولايات المتحدة. ولم يتبقَ أضغاث سيادة ولا شعب: ملايين هُجروا تهجيراً مذهبياً منها، ودخلت كل هذه القوى إما بذريعة إسقاط الأسد أو لإنقاذه. والحقيقة أنها دخلت سوريا لكي تبقى فيها.
وها هو اليمن يتشرذم في حروب أهلية بين ميليشيات عميلة وبين الشرعية الحاكمة، والقوى الداعمة للميليشيات «الحوثية» المتمردة تريد جعله أرضاً سائبة. والعراق مغلوب على أمره وساحة لصراع الآخرين مخترقة من الملالي وفي ظل وجود عسكري أميركي.
قُتل سليماني، وبدلاً من أن يكون الصراع بين أميركا وإيران على أرضيهما فقد اختيرت الأرض العراقية برغم إرادة شعبها لتكون الحلبة. أما ليبيا فكأنها لا تختلف عن أخواتها. ها هي مقسمة على قياس من يحاول أن ينهب خيراتها وسيادتها وبترولها. اختلط فيها الإرهابيون المحترفون و«القاعدة» و«داعش» و«الإخوان» وتركيا أردوغان. بذرائع دعم شرعية مزيفة ومنهوشة، صادرت طرابلس ومصراتة وسِرت، لكن الشرعية الأساسية المتمثلة بالجيش الوطني والبرلمان تدك معاقل هؤلاء ببسالة لاستعادة العاصمة الأولى طرابلس. ولحسن الحظ أن قوات المشير خليفة حفتر تتقدم بثبات لا إلى عمق طرابلس فقط، بل إلى مصراتة بعدما استرجعت سرت.
هل نيأس أم نتشاءم؟ نعم ولا! «لا» لأن تضاهي هذا الموقف آمال عينية. كقوات التحالف التي تدعم الشرعية اليمنية بكل قوتها. والشعب العراقي ينتفض ضد المتدخلين في شؤونه. والشعب الفلسطيني يكافح بشبابه وشيبه مخططات الاستيطان الإسرائيلية، ومصر بشعبها ودولتها تحارب الإرهاب في سيناء ومندرجاتها لقطع دابره ودابر من هم وراءه.
حالتا الأمل والألم، التشاؤم والحلم المواجهة والتحرر كلها تتآخى وتتصاحب كما في كل أزمة خطيرة. لكن وبرغم كل شيء، ها هم عرب العروبة والسيادة والتنوير يواجهون القوى الظلامية، لأنهم مؤمنون بحقهم وبوجودهم وبسيادتهم.
*كاتب لبناني