تعدّ إدارة الأزمات السياسية على الصعيد الدبلوماسي خليطاً بين المعرفة والفن والموهبة والتفكير الإبداعي، والتنسيق والتعاون بين فرق العمل التي تعمل بمبدأ التكاملية، وهي فرق تعمل ولا تنتظر حدوث الأزمة بل تتعامل مع احتمالية حدوثها أو جذورها قبل أن تقع، وإنْ وقعت تكون جميع إجراءات التخفيف قد اتخذت لامتصاص الأزمة وحلها في أسرع وقت ممكن بأقل جهد وتكلفة، وقد تخلق أزمة لحل أزمة أخرى أو تحويل مسار قوة الأزمة لاتجاه معاكس والسعي لتفكيك عناصر القوة في مركز الأزمة، أو إبعاد مصالح أهم اللاعبين فيها عن بعض وتحييدهم أو جعلهم في مواجهة بعضهم البعض أو نشر الخلاف والتشكيك بينهم، وجعل الطرق المؤدية لتجميع مصادرهم متفرّقة، وألا تلتقي أبدأ أو سدّ وعرقلة مسارات الوصول، وشراء الوقت الكافي لاتخاذ ما يلزم من إجراءات تساهم في رفع مستوى الجاهزية للاستجابة.
وأفضل طريقة لإدارة الأزمة هي منعها من الحدوث في المقام الأول، وإنْ كان أحياناً وجود أزمة هو حل لأزمة أكبر منها، أو تشتيت الانتباه لتحقيق هدف أكبر من خلال جعل الخصم يضع كل جهوده وإمكانياته في حل أزمة معينة بينما الأزمة الحقيقية غير مباشرة أو في طور التكوين، وحتى تكتمل أركانها وإن لم تكن مفاجأة ستحاول الجهة التي تعرضت لأزمات أخرى، وهي تعالجها أن تصبّ جمّ تركيزها على الأزمة الأكبر التي تتبلور، وبالتالي توفر فرصة لإذكاء النار في الأزمة الأولى أو الأزمات الصغيرة المتفرّقة لتشكل قنبلة عنقودية تنفجر في داخل الجهة المستهدفة دون الحاجة لقتال، وهو الفن الذي تبرع فيه بعض الدول الكبرى دون سواها، ويعتقد البعض أنها تتخبط وتسيء إدارة أزماتها بينما هي في حقيقة الأمر تجعل الآخرين يديرون أزماتهم وفق ما تريد هي، وفي الاتجاه الذي اتخذت حياله كل الإجراءات اللازمة لجعل الأزمة تطيح بمراكز القوة وتضعف مقدرات الداخل في الدولة المستهدفة.
فالعالم اليوم يُدار بصورة غير مركزية، وهزيمة الشعوب تحدث عندما تكون لها احتياجات أساسية وليست هي من يملك مفاتيحها وأسرارها أو من يصنعها، والاستباقية تكمن هنا في آليات مستدامة لاستخراج وتداول وتخزين الموارد الحيوية والاستخدام الأفضل لها واحتواء المخاطر على الأرض وفي الفضاء على حد سواء، ومحاولة حل معضلة عدم اليقين والغموض في التحولات المتسارعة في عالم السياسة الذي لم يعد التنبؤ بمخرجاته أمراً تقليدياً، ومدخلات لا تنتج عنها مخرجات مؤكدة لغياب الثوابت في المعادلات السياسية اليوم، والذي كان يعدّ بمثابة مدخل مهم لتفوّق الأمم، ولذلك فالحكومات اليوم ليست بصدد أن تكون الأكثر ذكاءً والأغنى والأكبر حجماً والأكثر موارد، ولكن الأكثر ابتكاراً واختراعاً وتنوعاً والأقدر على التكيّف في مواجهة كل التحديات وتحويلها لقنوات وفرص للنجاح والريادة في قواها الناعمة، وكيف تجعل مواردها المحدودة ميزة تفوقية بتعظيم قيمها واستحداث موارد أخرى منها.
كما يجب عدم تجاهل أهمية الحدّ من التخمين وتقييم الافتراضات الاستراتيجية من خلال التوصل لفهم معمق يغطي جميع الجوانب في بيئة الأزمة وجميع العوامل المؤثرة فيها في الداخل والخارج وكل التهديدات الناشئة وخلق مساحة وظروف تحدّد فيها التغييرات والمتغيرات المرغوب فيها لتصبح الافتراضات أقرب للواقعية وتحويلها لاحتمال، وقد تتطلّب إدارة الأزمات السياسية الاستقرار في الأزمات والتحكّم فيها بالقدر الذي لا يجعلها تخرج عن السيطرة من حيث ديناميكية الأزمة وسرعتها، وخلق الإثارة بالمراوغة والإيحاء وذر الرماد في العيون في المواجهات السياسية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية والاعتماد على التهديدات والمناوشات لتأجيج الشعور بالخطر وتبرير وجودهم لحماية مصالح العامة والشعوب، هم جمهور مسارح السياسة، ولذلك يوفر لهم الساسة دائماً التشويق والغموض والخوف والحزن والفرح والمتعة ليبقوا هم ساسة، ويبقى الجمهور جمهورا ولا يستغني أحدهم عن الآخر.
وهناك شخصيات، وأحزاب سياسية، تعد الأزمات، التي ليس لها عواقب مدمرة، وقودها الأساسي للبقاء والانتشار والتأثير، وقد تنخرط بعض الدول في أزمات لتتعافى من أزمة أخرى كتحريك وتنشيط سوق السلاح والحماية وإعادة التعمير والتصنيع، وخلق أسواق جديدة لا تعرف غير بضاعة المتسبّب في الأزمة ومنع دولة أخرى من نشر منتجاتها ورفع أسعار المواد الخام في مصانعها من خلال النزاعات، ومن جهة أخرى يمثّل وجود الخبرات الاستثنائية والمستشارين الاستراتيجيين والمنظرّين والمفكرين علامة فارقة مهمة في إدارة الأزمات السياسية والدبلوماسية، ويتمثّل الجزء الآخر من فريق التدخل في حل الأزمات وجود موظفين فعّالين في مجال العلاقات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي ومتحدثين عن كبرى الصناعات، وعدم التردّد في استخدام وسائل جديدة والخروج عن الروتين في إدارة الأزمات.
*كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.