هدأت في الأيام الأخيرة المخاوف من اندلاع حرب كبيرة في الشرق الأوسط، بعد أن وضعت تداعياتُ الأحداث المنطقةَ على حافة الهاوية. وتبين مجدداً أن أحداً لا يرغب في هذه الحرب. لكن هذا لا يعني أن خطر نشوبها في المستقبل زال تماماً. فكم من حروب حدثت من دون أن يسعى أي من أطرافها إليها، أو يخطط ويحدد ساعة صفر لإطلاقها، سواء أكانت «حروباً غير مرغوب فيها» ?أو ?«حروب ?الصدفة». والفرق بينهما أن الحرب غير المرغوب فيها تنشب نتيجة تداعيات أفعال متوالية يهدف فاعلوها إلى ممارسة ضغوط، أو انتزاع مكاسب، أو تحقيق ردع، لكنها تخرج عن نطاق السيطرة في لحظة معينة، فيصبح تجنب وقوع هذه الحرب متعذراً، وقد يجد طرفاها أو أطرافها نفسهم في قلبها من دون اتخاذ قرار، لأن الجاهزية لها تكون عادة في أعلى مستوياتها خلال الأحداث التي تتوالى قبيلها، وتقود إليها. وتدخل الأزمة التي كادت أن تؤدي إلى حرب كبيرة في الأيام الأولى من العام الجاري في هذا الإطار.
أما حروب الصدفة، فتبدأ غالباً نتيجة قرار تتخذه دولة رداً على حدث يبدو أصغر من أن يقود إليها، ويمكن التعامل معه بطريقة أخرى، لكنه يحدث في لحظة يبلغ فيها مستوى التوتر بين طرفيها أو أطرافها أعلى ذروة. وتُعد الحرب العالمية الأولى المثال الأكثر وضوحاً لحروب الصدفة، إذ تسبب اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانتز فرديناند على يد شاب صربي في يونيو 1914 في نشوبها. فقد أعلنت النمسا الحرب التي اتسع نطاقها بسرعة، وتجاوزت بدايتها الثنائية «النمساوية-الصربية»، لأن مستوى التوتر بين التكتلين المتصارعين في أوروبا حينئذ كان قد بلغ أعلى ذروة، وصار الوضع أشبه ببرميل بارود ينتظر عود ثقاب. ولم يتصور أحد أن عملية اغتيال قام بها شاب من تلقاء نفسه هي هذا العود، خاصة أن صربيا كانت خارجة لتوها من حربي البلقان الأولى والثانية.
لكن ما يجمع بين هذين النوعين من الحروب هو غياب الثقة أو انعدامها، بين طرفي الأزمة على نحو يدفع كلاً منهما إلى التصرف بطريقة تقوم على افتراض وجود تهديد كبير وشيك، ما يؤدي إلى سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تخرج عن السيطرة أو إلى إساءة تفسير موقف أو فعل، وربما استثماره في بعض الأحيان، على نحو يؤدي إلى اتخاذ قرار الحرب في لحظة تكون غالباً غير متوقعة.
ولعل أهم، وأخطر، ما أظهره تصاعد الأزمة الأخيرة وصولاً إلى حافة الهاوية، قبل تهدئتها، حالة عدم الثقة التي بلغت مستوى غير مسبوق. فالأرجح، وفق المعطيات المتوافرة حتى الآن، أن حالة عدم الثقة هي العامل الأول وراء التصعيد الذي أدت تداعياته السريعة إلى تغيير لم يكن متوقعاً في السياسة الأميركية، عقب محاصرة سفارة الولايات المتحدة في بغداد، ومحاولة اقتحامها. ويصعب تفسير هذا التغيير بعيداً عن تفاقم غياب الثقة، لأن أي عامل آخر لا يكفي لفهمه، سواء رغبة الرئيس ترامب في تعزيز مركزه الانتخابي وفق بعض التحليلات، أو إلحاح الصقور في الإدارة الأميركية حسب تحليلات أخرى. فلا توجد دلائل كافية على أن شعبية ترامب تتراجع إلى الحد الذي يدفعه إلى الإقدام على تغيير بهذا الحجم في السياسة الأميركية، وبالتالي في التفاعلات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط. كما أن الصقور موجودون في الإدارة الأميركية الحالية منذ أن باشرت مهامها بعد دخول ترامب البيت الأبيض في 20 يناير 2017، ولم يتوقف إلحاحهم لتغيير السياسة الأميركية تجاه طهران.
والملاحظ، هنا، أن المعلومات التي وضعت أمام الرئيس ترامب بشأن الإعداد لهجمات ضد مواقع أميركية ليست الأولى من نوعها. ولذا، فالأرجح أن ترامب لم يتخذ قرار عملية مطار بغداد بناء عليها فقط، بل بتأثير تفاقم غياب الثقة، ما يؤدي إلى توقع الأسوأ والأخطر.
حالة غياب الثقة، إذن، تعد العنصر الأكثر أهمية في تفسير وصول الأزمة إلى حافة حرب لم تنشب لأنها غير مرغوب فيها. لكن ليس هناك ما يضمن الرجوع عن هذه الحافة عند بلوغها في كل مرة. ولذا، فالدرس الأساسي الذي يمكن استخلاصه أن شبح حرب غير مرغوب فيها سيبقى مخيماً في سماء المنطقة ما دامت حالة انعدام الثقة مستمرة، وإلى أن يتيسر خلق أجواء تساعد في الحد منها.