هل ندرك الوعي الجديد الذي يتشكل في العالم، اليوم وغداً، ويحمله الجيل القادم؟ وهل نعرف ماذا سيفعل الجيل الذي ولد في الألفية الثالثة عندما يتولى قيادة العالم؟ فهذا الجيل الذي ولد محاطاً بشبكة الإنترنت ومحركات البحث والأسواق الالكترونية والحواسيب والموبايلات باعتبارها أمراً بدهياً في حياته اليومية وفي التعليم والتواصل ينشئ (لا بد أن ينشئ) وعياً مختلفاً للحياة والقيم والأعمال والعلاقات، كما يدرك حقائق الأشياء على نحو مختلف اختلافاً كبيراً عن الجيل السابق، سواء بعِقد من الزمان، والذي نشأ في حالة انتقالية أو هجينة، أو الجيل المخضرم الذي نشأ في منظومة مختلفة تماماً ًعن بيئة «الشبكية»، ثم انتقل إلى البيئة الجديدة محملاً بخبرات وقيم مرحلة لم تعد قائمة!
يمكن ملاحظة اتجاهات وفلسفات وأفكار، وإن كانت معروفة ولها مؤيدون، لكنها اليوم تصعد بقوة وتأثير، مثل النسوية والمساواة والبيئة والحقوق والحريات العامة والعيش معاً والتنوع والاختلاف، والهويات الفرعية، وحقوق وقيم الفئات الخاصة في المجتمعات سواء في اتجاهاتها وأسلوب حياتها أو انتماءاتها الإثنية والأقلوية المختلفة عن الأغلبية. وتنبعث على نحو عالمي ومشترك بين الناس على مختلف أديانهم وبلادهم اتجاهات وقيم روحية، مثل التصوف والتأمل واليوغا، وتنشأ أيضاً قيم واتجاهات عالمية مشتركة وممتدة في العالم في الثقافة والفنون والموسيقى واللباس وأسلوب الحياة.
ويشهد الجيل الجديد حالات من العودة إلى الجذور، فالأحفاد يتتبعون أجدادهم أكثر من آبائهم، وتبدو بوضوح غير مسبوق مقولة «فرويد» إن الناس يدفنون آباءهم ثم ينجبونهم. وفي مقابل حركات واتجاهات السلام والتعاون والتعايش تصعد أيضا الجماعات اليمينية والأصولية على نحو غير مسبوق، حتى في الدول المتقدمة التي قطعت شوطاً طويلاً في الديمقراطية الليبرالية.
ثمة مسألتان بديهيتان في هذا السياق يجب الإشارة إليهما، لكنهما برغم بداهتهما فإنهما تنسيان، أو نتجاهلهما (وهذا هو الأرجح) فينشأ عن هذا النسيان أو التجاهل أزمة عميقة في المؤسسات والأعمال كما الأفكار والفلسفات والقيم المنظمة للحياة والعلاقات والموارد، وهما ببساطة أن مرحلة جديدة من التقنية والموارد تنشئ حتما قيماً ونخباً جديدة كما يتشكل إدراك جديد ومختلف للحقائق، كما ينشأ أيضاً وعي جديد. وبطبيعة الحال فإن القيم والنخب والمؤسسات السائدة تتعرض لتحديات جوهرية تجعلها عرضة للانسحاب أو إعادة إنتاج وتأهيل نفسها وفق المرحلة الجديدة، وهي القاعدة المشهورة في تاريخ البشرية، ويسميها ارنولد توينبي «التحدي والاستجابة».
لكن منظومة التحدي والاستجابة لا تعمل في اتجاهات تلقائية أو يمكن توقعها بسهولة، فالواقع القائم يجد دائماً قوى واتجاهات سياسية واجتماعية تدافع عنه وتقاوم تغييره، مهما كان غير مجدٍ، أو كان استمراره بلا معنى أو قيمة، والنظام الاقتصادي أو المؤسسي ينشئ جماعات تقوم عليه، وسوف تظل هذه الجماعات ترفض تغييره أو مراجعته مادام يعمل لمصلحتها.
تعمل الإنسانية وتفكر في إدارتها لتحدياتها ومواردها وفق قاعدتين أساسيتين تفسران مسار الإنسانية في الاستجابة والتكيف مع التحولات والأحداث الكبرى والصغيرة، وهما البقاء وتحسين البقاء، والبحث والتأمل، وفي ذلك ينشئ الإنسان العلم والمعرفة لأجل أن يبقى ويرتقي بوجوده هذا نحو ما يتطلع إليه، أو يفكر فيه، أو حتى يتخيله، وفي عجز العلم عن الإجابة يلجأ الإنسان إلى الدين والفلسفة والتصوف ليسد الفراغ المعرفي، وينشئ مهارات جديدة توصله إلى ما يريد مع نقص المعرفة، وهكذا يكون ويتطور الذكاء والإبداع والفنون والآداب والقيم.
وهكذا أيضاً يمكن أن نقدر كيف يفكر الجيل القادم، وكيف سيدير العالم عندما يكون في موقع القيادة والتأثير بدءاً بالعام 2030 تقريباً، فهو جيل خائف من الواقع القائم الذي نشأ وتطور في منظومة هو لا يعرفها أو لا يؤمن بها، إن الكون والحياة بالنسبة للإنسان مثل آلة معقدة، ولا ينشغل بفهمها ومراجعتها مادامت تعمل لمصلحته، لكنه يلجأ إلى البحث والتفكير بكل مواهبه ومعارفه عندما تتوقف عن العمل أو تعمل ضده، وفي حين أنشأ الجيل السابق أعماله ومصالحه وفرصه بناء على الواقع المحيط فإن الجيل القادم يفقد هذه المزايا والفرص، لكنه ينشئ فرصاً جديدة في واقع يعرفه أكثر الجيل السابق، ليست معرفة مستمدة من تطور تلقائي، لكنها قائمة على اختلاف كبير بينهما، سوف يُعلم الأبناء الآباء وليس العكس! وللسبب نفسه أيضا تصعد قيم وفلسفات التعاون والتعايش والعولمة لأجل استيعاب الفرص والتحديات الجديدة، كما تنشأ في الوقت نفسه اتجاهات التطرف والتعصب والعودة إلى الجذور والقيم والاتجاهات التي تخلى عنها الآباء، ويعكس ذلك على الأرجح الخوف وعدم اليقين وفقدان المعنى والجدوى، فالعمل الذي أعطى للآباء أهميتهم ومعنى وجودهم لم أو/ لن يظل قائماً. وربما للسبب نفسه يبدو الصراع في الانتخابات العامة بين اتجاهين متناقضين (ترامب وساندرز على سبيل المثال)، وينحسر الاتجاه الوسطي الذي يسود ويصعد أكثر في ظل الشعور بالاستقرار والأمان.
*باحث وكاتب أردني