بالنظر إلى كل التركيز الأخير الذي كان منصباً على السياسة الصحية، قد تعتقد أن المجمع الطبي الصناعي سينخرط بقوة في سباق الانتخابات «الديمقراطية» التمهيدية، وسيسعى جاهداً لعرقلة «إيليزابيث وارين». والواقع أن ائتلافاً يتألف من شركات أدوية وتأمين ومستشفيات منخرط حالياً، بالفعل، في نشر إعلانات تهاجم فكرة «ميديكير للجميع» الذي تقول بها «وارين». غير أن دور قطاع الصحة السياسي كان باهتاً نسبياً حتى الآن. وبالمقابل، فإن رد الفعل القوي حقاً ضد وارن و«الديمقراطيين» التقدميين بشكل عام، هو ذاك الذي يصدر حالياً عن «وول ستريت». ولئن كانت تلك المعارضة تعكس جزئياً مصلحة ذاتية، فإن كراهية «وول ستريت» لوارين بلغت حداً من الشراسة - التي تتطور إلى هستيريا أحياناً - يتجاوز الحسابات السياسية العادية.
فما الذي يقف وراء هذه الشراسة؟
أولاً، لنتحدث عن الأسباب المعقولة للقلق الذي تشعر به «وول ستريت» إزاء «وارين»، فهذه الأخيرة، بالطبع، تدعو إلى زيادات كبيرة للضرائب على الأغنياء جداً، أولئك الذين تتجاوز ثروتهم 50 مليون دولار، علماً بأن القطاع المالي ممثَّل بقوة في ذاك النادي النخبوي. ونظراً لأن زيادة الضرائب على الأغنياء تحظى بشعبية واسعة، فإنها فكرة قد يستطيع رئيس تقدمي تحويلها إلى سياسة حقيقية في الواقع. وعلاوة على ذلك، فإن وارين تؤمن كثيراً بتقنين مالي أكثر صرامة، ولعل من المفيد التذكير هنا بأن «مكتب الحماية المالية للمستهلك»، الذي كان فعالاً للغاية قبل أن تشرع إدارة ترامب في إضعافه، هو من بنات أفكارها.
وبالتالي، فإذا كنت من مليارديرات «وول ستريت»، فإن المصلحة الذاتية العقلانية قد تدفعك لمعارضة «وارين». غير أن العقلانية لا تفسّر إقدام مدير أموال مثل «ليون كوبرمان» على نشر رسالة مفتوحة محرجة تندد بـ«وارين» لفشلها في فهم وتقدير كل الأشياء الرائعة التي يفعلها المليارديرات مثله للمجتمع. كما أنها لا تفسر الغضب الذي استبد بـ«كليف آسنس»، وهو مدير أموال آخر، إزاء مستشار «وارين»، «غابرييل زكمان»، بسبب استخدامه مصطلح «تعظيم الإيرادات» واصفاً إياه بأنه «غير أخلاقي على نحو مقزز».
إن المؤشر الحقيقي هنا، في اعتقادي، هو أن جزءاً كبيراً من خطاب «وول ستريت» الناري الموجه إلى «وارين» حالياً، كان موجهاً قبل ذلك إلى الرئيس باراك أوباما، من بين كل الناس.
موضوعياً، يمكن القول إن أوباما تعامل مع «وول ستريت» بقدر كبير من اللباقة. ففي أعقاب أزمة مالية مدمرة، أنقذت إدارته المؤسسات المنهارة بشروط مواتية. وقد فرض مع «الديمقراطيين» في الكونجرس بعض القوانين المنظِّمة الجديدة بالفعل، ولكنها كانت معتدلة جداً، مقارنة مع القوانين التي اعتُمدت عقب أزمة البنوك في الثلاثينيات. غير أنه أشار بالفعل في بعض المناسبات إلى المصرفيين الأثرياء النافذين، واعتبر أن تجاوزات القطاع المالي كانت السبب في أزمة 2008 لأنها، حسناً، كانت بالفعل السبب فيها في الحقيقة. والنتيجة، في وقت مبكر من عمر إدارته، هي أن «وول ستريت» أصبحت مسكونة بـ«غضب أوباما»، وأن القطاع المالي هبّ كله لدعم المرشح «الجمهوري» ميت رومني في انتخابات 2012.
وبالمناسبة، أتساءل ما إن كان هذا التاريخ يساعد على تفسير جانب غريب من عملية جمع التبرعات في حملة الانتخابات التمهيدية الحالية. فليس مفاجئاً أن تحصل «وارين» على القليل جداً من المال من القطاع المالي، غير أنه من المفاجئ هو أن يكون المستفيد الأول من التبرعات المالية ليس هو جو بايدن وإنما «بيت بوتيجيج»، الذي يحتل المركز الرابع بين المتنافسين الديمقراطيين في استطلاعات الرأي. فهل يعاني بايدن مما تبقى من تداعيات مشاعر الغضب القديمة التي كانت موجهة ضد أوباما؟
ما أريد أن أقوله هو أن مليارديرات «وول ستريت»، وأكثر من بقية المليارديرات بشكل عام، يبدو أن لديهم حساسية مفرطة، وغير قادرين عاطفياً على تحمل الانتقادات. والواقع أنني لست واثقاً من أسباب ذلك، ولكن ربما أنهم في قرارة أنفسهم يعتقدون أن المنتقدين على حق.
وعلى كل حال، ما الذي تفعله المالية الحديثة من أجل الاقتصاد؟ الواقع أنه خلافاً لأغنياء العصور القديمة، فإن أثرياء «وول ستريت» الحاليين لا يبنون أي شيء ملموس. بل إنهم لا يقومون حتى بتوجيه المال إلى الأشخاص الذين ينشئون صناعات المستقبل في الواقع. فالتوسع الكبير للائتمان في أميركا بعد عام 1980 قام عموماً على ارتفاع في الديون الاستهلاكية، وليس على أموال جديدة لاستثمارات الشركات. وعلاوة على ذلك، هناك أدلة متزايدة على أنه عندما يصبح القطاع المالي أكبر مما ينبغي، فإنه يصبح بمثابة عائق للاقتصاد.
الآن، ولأن الطبيعة البشرية هي الطبيعة البشرية، فإن الأشخاص الذين يتساءلون سراً ما إن كانوا يستحقون ثروتهم حقاً يشعرون بالغضب بشكل خاص، عندما يعبّر آخرون عن شكوك بشأن ذلك بشكل علني. ولهذا، فإنه ليس مفاجئاً أن الأشخاص الذين لم يستطيعوا تحمل انتقادات أوباما خرجوا عن طورهم كلياً، وصبّوا جام غضبهم على «وارين».
ما يعنيه هذا هو أن على المرء أن يكون حذراً، إزاء ادعاء «وول ستريت» أن السياسات التقدمية ستؤدي إلى نتائج وخيمة. مثل هذه الادعاءات لا تعكس حكمة اقتصادية عميقة، وهي إلى حد كبير تصدر عن أشخاص ذوي ثروات طائلة، ويجدر بالأميركيين عدم الالتفات إلى خطاباتهم.
*كاتب وأكاديمي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2019/11/04/opinion/elizabeth-warren.html