مع نهاية العام الماضي حققت أسعار الذهب أقوى زيادة سنوية لها، وبلغت مستويات قياسية، لامست 1600 دولار للأونصة، للمرة الأولى منذ سبع سنوات. وعلى رغم تراجعها إلى 1552 دولاراً (الخميس الماضي) بسبب تحسن الإقبال على المخاطرة بفعل إشارات متفائلة عن اتفاق تجاري بين الصين والولايات المتحدة، يرى المحللون أن الأسعار ستواصل صعودها في العام الحالي، في ظل نمو هش وأسواق أسهم عالمية غير قادرة على الاستمرار عند مستويات قياسية مرتفعة، وإقدام البنوك المركزية على مزيد من شراء الذهب، والانتقال من تشديد السياسة النقدية إلى تيسيرها، ما يدفع أسعار الفائدة وعوائد السندات للانخفاض ويجعل المعادن النفيسة أشد إغراء للمستثمرين. كل ذلك يبرر الاحتفاظ بالمعدن الأصفر كأداة تحوط، ومن المرجح أن تقود هذه النظرة الطلب للارتفاع.
في ضوء المخاطر المرتقبة عن الأحداث الجيوسياسية التي تتصدر قائمة المؤثرات على الاقتصاد العالمي، تبرز أهمية الاستثمار بالذهب كسلعة استراتيجية وملاذا آمناً وداعماً للعملات الرئيسة المتنافسة في الأسواق والبورصات العالمية، الأمر الذي ضاعف من اهتمام البلدان المنتجة لزيادة إنتاجها ودعم اقتصاداتها. وفي هذا المجال تبرز أهمية السودان الذي يعتبر من أهم ثلاث دول أفريقية منتجة له، بعد غانا وجنوب أفريقيا، ويحتل المرتبة 13 في العالم، ورغم أنه بلد «غني» باستثمار ثرواته الطبيعية، فهو يعاني من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر. وتتضارب الإحصاءات بين تقرير للأمم المتحدة أن 46% من السكان يعيشون دون خط الفقر، و52.4% منهم في فقر متعدد الأبعاد، ودراسة حكومية تفيد أن الفقر تراجع إلى 28%، بينما يؤكد عدد من الخبراء الاقتصاديين أن معدلات الفقر ارتفعت بشكل ملحوظ في العامين الماضيين، بسبب سياسات النظام السابق.
لوحظ أن موازنة العام الحالي، فجرت خلافاً حاداً بين وزارة المالية التي تؤيد رفع الدعم عن الوقود والقمح وتعويم سعر صرف الجنيه، امتثالاً لتعليمات صندوق النقد الدولي، وبين تحالف قوى الحرية والتغيير(الأقوى سياسياً) الذي رفض ذلك، خوفاً من ردة الشارع وتآكل شعبية حكومة الثورة، وأقترح على الطاقم الاقتصادي السيطرة على إنتاج الذهب ومكافحة الفساد. ولكن هل تستطيع الحكومة تحقيق هذا الهدف؟ يُقدر إنتاج الذهب في السودان بين 120 إلى 200 طن سنوياً، بعائدات تبلغ 5 مليارات دولار، ويعمل في قطاع المعادن نحو 5 ملايين عامل، لذلك أعلن رئيس الوزراء عبدالله حمدوك أن بلاده ستعتمد على كوادرها الوطنية ومواردها الذاتية في إصلاحاتها الاقتصادية، من دون الاعتماد على وصفات صندوق النقد التي تكون أحياناً مؤلمة للدول النامية. ولكن المشكلة تكمن في اتساع عمليات التهريب، إذ يستخدم المهربون عبر الحدود طرقاً سرية في الصحراء، وتخزين الذهب في بطون الإبل، والبعض منها علناً عبر مطار الخرطوم، بسبب ضعف الرقابة. وفي خطوة ترمي إلى تضييق الخناق على التهريب بدأ السودان السماح للشركات بتصدير 70% من إنتاجها، وأن تبيع 30% الباقية إلى البنك المركزي بسعر الصرف الرسمي البالغ 45 جنيهاً للدولار (أي نصف قيمة سعر السوق) لكن الشركات رفضت القرار، وطالبت بتصدير كمية الإنتاج كاملة. علماً أن عدد الشركات المحلية والعربية والأجنبية العاملة بالذهب يبلغ نحو443 شركة، منها 150 شركة امتياز.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية