جاء قرار الحكومة الأميركية يوم الجمعة الماضي، بإخضاع المسافرين القادمين من مدينة «ووهان» الصينية، عبر مطارات نيويورك، وسان فرانسيسكو، ولوس آنجلوس، ومن قبلها سلطات مطارات كل من هونج كونج، وسنغافورة، لفحص سريع بغرض الكشف عن احتمال إصابتهم بنوع جديد من الفيروسات ظهر قبل بضعة أسابيع.. جاء القرار المذكور ليسلط الضوء على مدى تزايد المخاوف العالمية من أن يتحول الأمر إلى وباء عالمي.
وينتمي الفيروس الذي ظهر للمرة الأولى منتصف ديسمبر الماضي في المدينة الواقعة شرقي الصين، إلى طائفة الفيروسات المعروفة بـ«الكورونافيرس» (Coronaviruses)، والتي يتسبب أفرادها في العديد من الأمراض المعدية، بما في ذلك البرد العادي أو الشائع، ومرض السارس، وغيرهما من الأمراض. وقد بدأ ظهور الفيروس في شكل إصابات متعددة بالتهاب رئوي حاد بين عدد من العاملين، ومن هم على اتصال مباشر بهم، في سوق لبيع الأسماك والحيوانات الحية. وبعد أن تمكن العلماء من عزل الفيروس، وتفكيك تركيبته الوراثية، اتضح أنه ينتمي لطائفة الكورونا، وأن مادته الوراثية تتطابق بنسبة 70 في المئة مع فيروس السارس. وكان هذا الفيروس (أي فيروس السارس) قد ظهر أيضاً في جنوب الصين نهاية عام 2002، وتسبب في وباء استمر حتى يوليو 2003، ونتج عنه أكثر من 8 آلاف إصابة، و774 وفاةً في 37 دولة. هذا الانتشار العالمي لفيروس السارس إلى أركان الأرض الأربعة في غضون أسابيع أو شهور قليلة، وتسبُّبه في وفياتٍ في عشرات الدول، هو بالتحديد سبب قلق ومخاوف العلماء من الفيروس الجديد، بالنظر إلى تشابهه الشديد في المادة الوراثية (70 في المئة) مع فيروس السارس، وخصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الفيروس الجديد، تمكن بالفعل في فترة زمنية قصيرة من الانتقال إلى دول أخرى خارج الصين، حيث تم تسجيل حالتي إصابة في تايلاند وحالة واحدة في اليابان، وذلك حتى تاريخه.
وبالإضافة إلى هذا وذاك، كان هناك وباء إنفلونزا الطيور، والذي توقّع علماء «مبادرة الصحة الدولية» في جامعة هارفارد (Harvard Initiative for Global Health)، عام 2007، أنه سيتسبب في مقتل 62 مليون شخص إذا ما انتشر. فبناء على تعداد سكان العالم حينها، أظهرت التقديرات الإحصائية أن وباءً مستقبلياً من الإنفلونزا، سيتسبب في مقتل ما بين 51 إلى 81 مليون شخص. وهذا العدد الهائل من الضحايا، لن يقع في بلد أو قارة واحدة بمعزل عن بقية الدول والقارات الأخرى. بل يتوقع له أن ينتشر في جميع أصقاع العالم من دون استثناء، عبر آلاف الرحلات الجوية التي تحمل مئات الآلاف من المسافرين يومياً، في واحد من أهم مظاهر العولمة الحديثة.
هذه العلاقة بين العولمة وبين سرعة ومدى انتشار الأوبئة والأمراض، حدت بمنظمة الصحة العالمية عام 2007، إلى إصدار تقرير خاص بعنوان «الأمن الصحي العالمي» (International Health Security). وطرح هذا التقرير حينها مفهوماً جديداً، هو مفهوم الأمن الصحي العالمي، وبشكل مماثل لمفاهيم الأمن السياسي، والاقتصادي، والغذائي، كما ألقى بالمزيد من الضوء على العلاقة بين تصاعد ظاهرة العولمة، وتزايد انتشار الأمراض والأوبئة. فالعولمة بطبيعتها، تعتمد على زيادة حركة البضائع والأشخاص بين مناطق ودول العالم المختلفة، وهو ما يسهِّل بدوره من انتقال الجراثيم والميكروبات بين هذه الدول وتلك المناطق. فعلى مدار التاريخ، دائماً ما شكّل تباعد المسافات، ووجود العوائق الجغرافية (من جبال وصحاري ومحيطات.. إلخ) نوعاً من الحجر الصحي الطبيعي، عمل على بقاء الأمراض والأوبئة في نطاق محلي في الكثير من الأوقات. أما في زمن العولمة، فقد تلاشت المسافات، واختفت العوائق الجغرافية، وأصبحت الأوبئة منذ لحظة ولادتها، دولية الصفة وعالمية المخاطر.
وليس من المبالغة وصف فيروسات العصر الحديث، بأنها فيروسات عابرة للقارات، يتطلب انتقالها من قارة إلى أخرى بضع ساعات فقط، هي زمن الرحلة الجوية بين قارة وأخرى. ولذا، سيعتمد الأمن الصحي الدولي في عالم اليوم بشكل رئيسي، على مدى فعالية التعاون والتنسيق بين الحكومات مع بعضها البعض. ففي زمن العولمة، لن يكون في مقدور جهة واحدة أو دولة بمفردها أن تقف في وجه التهديدات الصحية العالمية الناتجة عن انتقال الجراثيم والأوبئة عبر الحدود والقارات. فمن خلال التعرّف على مصادر الأوبئة، والإعلان عنها في مراحلها الأولى، ثم تفعيل التنسيق على نطاق واسع بين الحكومات والجهات الصحية الدولية.. يمكن للجنس البشري أن يحقق أكبر قدر من الأمن الصحي الدولي، وأن يتجنب سقوط الملايين من أفراده ضحايا لمثل تلك الأمراض الوبائية.