ما ينطبق على الأفراد لربما ينطبق على الدول عندما نقول: الوقت هو الجوهر والفشل في التخطيط يخطط للفشل. وضمن هذا السياق، فإن معظم الأمم لها ترتيبات خاصة لتحقيق غاياتها القومية العليا أو مصالحها الوطنية الحيوية، وتقوم تلك الأمم كذلك بالمقايضة البديلة للتحايل على سيناريو غير محبب أو وضع معين أو تخطي تحدي قائم أو أثر عقوبة تفرض، أو تحقيق كسب وتوسيع نفوذ وسلطة بطريقة أو بأخرى، حيث تتبلور أهمية الأمم وفق دورها وأهميتها الدولية والموارد التي تملكها ومكانتها في المجتمع الدولي، وما لديها من مقدرات كأمم، وهي في الغالب لا تعبئ بتداعيات القوانين الدولية، وإنْ كانت تعتبرها أحد مدخلات اتخاذ القرار الاختيارية.
فلكل دولة مسار في النظام العالمي الملموس وغير الملموس تسير في فلكه، ولا تعيش بمعزل عن التأثير والتأثر بمن حولها، وحتى لا يفرط العقد تجد الدول العظمى تستخدم كافة الوسائل المتاحة لها بين هجوم ودفاع ومقاومة وتخريب وهدم وبناء ومشاركة واستغلال واستنزاف، وذلك كضمان لوجودها قبل كل شيء، وأن تلحق أضراراً غير مبررة بالشعوب والبيئة، وتضرب بيد من حديد تارة، وتمسح بيد من حرير تارة أخرى، وإظهار نفسها كنموذج أوحد للحضارة الراقية من خلال فرض عضلاتها العسكرية والتجارية والصناعية والثقافية والتقنية ومقدرتها على إنتاج ما تحتاجه الشعوب للعيش وفق أسلوب حياة يجعلها مُستعمرة ومُسيطر على عقولها وأجسادها وذوقها العام واستهلاكها بصورة متناقضة، حيث تُتهم من جانب تلك الدول العظمى وحكوماتها وجيوشها، وتصفها بأبشع الأوصاف ومن جانب آخر تلبس الشعوب الغاضبة لبسها، وتأكل أغذيتها وتسمع موسيقاها، وتفكر مثلها وتستمتع بمنتجات ثورتها الصناعية والمعرفية والتكنولوجية.
ويرى بعض المفكرين الاستراتيجيين أن كل ما يجري في الدول العظمى يسير وفق برامج وخطط مئوية مدروسة تتعلق بعقيدة وفكر تلك الأمم، ولا يختصر ذلك في ربط الأمن القومي بالحفاظ على السيادة ومنع العدوان وبتوظيف القوى الصلبة والناعمة والموارد الوفيرة أو المرغوب في تأمينها من الخارج، بل يشمل كذلك استراتيجيات تغيير الذوق العام وتذويب الهوية ومسح الثقافة الشعبية والدارجة، وتغيير سلوك الاستهلاك اليومي وآلية التفكير والتفكر والتشكيك في الثوابت والمعتقدات واحتقار عادات وتقاليد المجتمعات المختلفة عنها والتلاعب بالميول والرغبات والبعد الأخلاقي والروحي ومفاهيم الحضارة والتحضر والرقي والتقدم، وهي حرب تخاض على مدى قرون وجزء أصيل من الأطر العامة التي تستوعب النظريات الكبرى لخلق الكون والتهديدات الكونية.
وقد حدثت قفزة وتحولاً صامتاً من فكر استراتيجيات الأمن الامبراطوري إلى فكر الأمن القومي الشمولي وصولاً إلى الاستراتيجيات الكبرى للأمن الوجودي، ومفاده أن الدول لم تعد قادره على بناء واستدامة أسلحة وجيوش قتالية ووضعها على الرف لاستخدامها فقط في حاله الحرب وتسليح المحيطات ولا حاجه لإنشاء جيش دائم كبير والتعبئة الثقيلة، فهو أمن يتعلق بالأرض وما تحتها والسماء وما فوقها والنيل من الآخر في دقائق وساعات معدودة والنظر في احتمالية الأعداء غير البشريين، وما تخبأه الطبيعة والأسرار غير المكتشفة للكون وعاجلاً أم لاحقاً ستخسر المؤسسات التي تقف خلف الكواليس لإدارة العالم رهان حماية الأساطير العلمية، التي يصدقها سكان الأرض كمسلمات، وذلك على شاكلة كروية الأرض وثقب الأوزون، وبأن الأرض ليست نظاماً مغلقاً، والعقل المجرد اليوم لا يستطيع إدراك ما وراء العلم، حيث أن البحث العلمي والمعرفة الحالية في طريقها للزوال والثورة القادمة ستغير نظرة الإنسان للحياة.
وبما أننا في بحث مستمر عن آلية لتقريب فهمنا للغالبية من الحالات والأحداث المستقبلية المحتملة وكيفية التعايش معها والتنبؤ بحدوثها قبل وقت كافي، فنحن في حاجة لاستراتيجيات الأمن الوجودي الأكثر مرونة والأشمل، والتي تتناول قضايا كعسكرة الفضاء والإنسان الخارق وأيضا مثل التمييز المعرفي والتدخل لبقاء فصيل معين من النوع الإنساني وسرقة الأدمغة والأسلحة الخفية والطبيب الذاتي والخلايا السوبر، وهو ليس خيالاً علمياً، بل بعض التجارب في هذا البعد نجحت في مراحلها التجريبية الأولى والجيل العاشر من الحروب، الذي يتناول فيسيولوجيا الإنسان نفسه كسلاح ضده وتسخير الذكاء الصناعي وعلوم البيولوجي الصناعية وتطبيقات دمج الإنسان بالتقنيات الحديثة والمستقبلية، ووجود حلول لموارد الطبيعة المحدودة، ووجود ملاذ من كوارث الطبيعة الكبرى والتعاون مع الخصوم قبل الأصدقاء وتغير مفهوم العداء بين الأمم كأهم أسلحة الأمن الوجودي، فمتى سيتخلص العرب والمسلمون من ضيق الأفق السياسي للانطلاق بخطى واثقة نحو المستقبل، والتصدي لضباب عدم اليقين بالشروع في صناعة استراتيجيات الأمن الوجودي !