غيابهُ عن المشهد الخليجي مؤلم وموجع لكل محبيه، فقد أصاب كل محبيه الذين يكنون له مشاعر التقدير والاحترام بالصدمة والحزن الشديد، هكذا يمكنني تصوير ما كان قد حدث خلال الأيام الفائتة بعد إعلان نبأ وفاة السلطان قابوس بن سعيد، والذي برحيله أسدل الستار على حقبة مهمة من تاريخ منطقة الخليج، باعتباره آخر الآباء المؤسسين لمجلس التعاون الخليجي.
لقد عمّ الحزن دياره وديارنا، ومثلما نكِّست الأعلام في السلطنة حداداً على وفاته، كذلك نُكّست في الإمارات وأقامت جميع مساجدها صلاة الغائب على روح الراحل الكبير الشاهد على أحداث تاريخية مهمة، والذي نعاه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، ووصفه بأنه (زعيم من أبرز وأخلص أبناء الأمتين العربية والإسلامية)، فيما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، إنه (سلطان الوفاء والمحبة والحكمة)، كما قدّم واجب العزاء فيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ونعاه بقوله: (رحل عنّا أخ عزيز ورفيق درب الشيخ زايد، تقاسما بحكمتهما وإخلاصهما النهوض بشعبيهما وخدمة وطنيهما) مضيفاً: (عزاؤنا الوحيد ثقتنا بقدرة السلطنة الشقيقة وشعبها العظيم بقيادتها الجديدة التي عُرف عنها الحكمة والتسامح والأصالة، على إكمال مسيرتها المظفرة في النهضة والبناء).
وكلنا - الإماراتيون والعُمانيون – ندرك أن قيمة وحجم الروابط التي كانت بين الشيخ زايد بن سلطان والسلطان قابوس بن سعيد، غفر الله لهما، التي كانت أخوية متينة، فكلاهما كانا يشعران بالغبطة إنْ استقبل أحدهما الآخر، وللتاريخ وللأمانة لم تكن الزيارات المتبادلة متكلّفةً ويحكمها البروتوكول، أو خاطفةً وسريعةً، إذ كانا يأنسان لبعضهما البعض، ويجدان متعة في تبادل الأفكار والرؤى، ويدعم كل واحد منهما الآخر في طموحاته للارتقاء ببلده وتحقيق النهضة، وهو ما كان يتجسد في لقاءات القمة الإماراتية - العمانية في الماضي والحاضر، في ظل وجود تفكير مشترك بأن ما يخدم عمان يخدم الإمارات والعكس صحيح، لتصبح أواصر الأخوة والصداقة والعمل المشترك بين البلدين والشعبين نموذجاً فريداً، وهدفها تحقيق إنجازات مهمة في الدولتين، ومن المؤكد أن ما أرساه الشيخ زايد والسلطان قابوس سيبقى منارة لشعبي البلدين، ونقطة مضيئة في تاريخهما، وستستمر العلاقات بينهما في أعلى مستوياتها، ذلك أن علاقة الجوار وصلة الرحم التي تربط بينهما لا يمكن لأحد إدراكها إلا نحن أبناء الإمارات وعمان، وبالتالي ما ستشهده الأيام القادمة سيؤكد ثانية عمق العلاقة بين الطرفين، وامتدادها بفضل رؤية قيادة البلدين.
على مدى 50 عاماً، منح قابوس بلاده السلام والاستقرار والتنمية، وحماها من الانزلاق، بالرغم مما حلّ بالمنطقة العربية من متغيرات، وسيسجل التاريخ أن السلطنة دولة بلا أعداء بسبب سياستها الخارجية المتفردة. فقد ابتعدت عن الانحياز الحاد نحو فريق على حساب فريق آخر، وأحسنت التعامل مع المتغيرات السياسة الإقليمية والدولية، وتجنبت النزاعات، بناء على منطق الدبلوماسية الذي تبنّته، وهو ما جعل عمان واحة سلام ومحبة، وانعكس على مسار التنمية فيها، وعلى حسن استغلال مواردها رغم بساطتها.
لم تكن عُمان قبل تسلّم السلطان قابوس الحكم في عام 1970 قد شهدت مظاهر التطور والعمران، لكنها بعد ذلك بدأت تعرف طريقها نحو بناء نهضة مهمة إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وهو ما يجعل منه شخصية ذكراها محفورة في وجدان العُمانيين، لأن ما حققه لعُمان خلال فترة حكمه على مدار نصف قرن، يُعَد إنجازاً كبيراً بكل المقاييس، فقد نقل السلطنة من العزلة إلى الانفتاح، إثر القوانين التي أصدرها بشأن التعليم، وتطوير البنية التحتية، ودعم الزراعة والمزارعين والصناعة والصناعيين، وإيلاء الثقافة والتراث والفنون الأهمية التي تستحقها، وما يترتب على ذلك من تطوير للقطاع السياحي، ليكتمل المشهد بسياسة التعمين التي حققت أهدافها المرسومة لها. أما الحديث عن المستقبل، فهو مرهون بالرؤية الطموحة (رؤية عمان 2040)، التي أطلقها السلطان قابوس ويتولاها اليوم السلطان هيثم بن طارق، الذي طمأن الداخل والخارج في أولى خطبه بعد تسلّمه مقاليد السلطة، على مواصلة السياسة الخارجية لعمان وفق نهج السلطان قابوس، والقائمة على التعايش السلمي والتعاون الدولي، والمساهمة في حل الخلافات، ودعم مسيرة التعاون الخليجي، والعلاقات الودية مع دول العالم، والتي تهدف إلى وصول السلطنة إلى 10 دول في ركيزة المهارات وفق مؤشر التنافسية العالمية، وتكون من أفضل 20 دولة في مؤشرات الابتكار والتنافسية والكفاءة الحكومية، إلى جانب مضاعفة نصيب الفرد من الناتج المحلي، والوصول بنسبة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي إلى 93%، ورفع حصة العُمانيين في وظائف القطاع الخاص إلى 42% على الأقل، وإيصال الاستثمار الأجنبي إلى 10% من الناتج المحلي.
إن خصوصية العلاقة التي تربط بين الإمارات وعُمان لما بينهما من تداخل حضاري وإنساني، تجعلنا كإماراتيين نحزن لما يمر به العُمانيون بعد فقدهم السلطان قابوس، ونفرح لهم إذ تستمر مسيرة البناء على يدي السلطان هيثم بن طارق، ولا شك أن الأمانة بيد أهلها.