جاء الاتفاق التجاري الأميركي الصيني، الموقع في واشنطن الأربعاء الماضي، في وقته بالنسبة للدولتين، رغم طابعه الجزئي المتعلق بقسم صغير من خلافاتهما، فقد ألحق النزاع التجاري أضراراً متفاوتة باقتصاد كل منهما، مما وضع قيادتيهما في موقف دفعهما للعمل جدياً، من أجل التوصل إلى صيغة لتقليل الأضرار قدر الإمكان.
ولم يكن هذا التطور غير متوقع، رغم ما بدا أنه اتجاه تصاعدي للنزاع بين الدولتين، خلال العامين الأخيرين خاصة، طبيعة هذا النزاع تسمح بمعالجة بعض الخسائر المتبادلة المترتبة عليه من وقت لآخر، لأن «المصالح بين الدولتين أكثر مما يجمع أياً منهما ودولة أخرى، وهي تمثل كابحاً يضع سقفاً لتصاعد الصراع»، وفق ما ورد في مقالة لكاتب هذه السطور، منشورة هنا في 3 ديسمبر الماضي، تحت عنوان: «حدود الصراع التجاري».
الاتفاق مُربح جزئياً لكل من الولايات المتحدة والصين، من زاوية كونه يضع حداً للخسائر المترتبة على التوسع في سياسة فرض الرسوم والرسوم المضادة، ويقلل بعضها الآخر، لكن الرئيس ترامب ربما يكون الرابح الأول من الاتفاق، إذ يحقق له مكسباً سياسياً، إلى جانب معالجة بعض الأضرار، والحد من بعض الخسائر التي لحقت بالاقتصاد الأميركي، مقابل تنازلات تبدو محدودة قدّمتها إدارته، وأهمها التراجع عن فرض رسوم جديدة أكثر تشدداً، كان يفترض أن تدخل حيّز التنفيذ منتصف ديسمبر الماضي، وخفض الرسوم التي فُرضت في أول سبتمبر على بضائع، قيمتها 120 مليار دولار.
ويستطيع ترامب، بموجب الاتفاق، التحدث خلال حملته الرئاسية عن نجاح سياسته «الصارمة»، بشأن العلاقات التجارية مع الصين، باعتبار أن إحداث تغيير في هذه العلاقات، كان أحد وعوده للناخبين في حملة 2016.
وسيعتمد ترامب في تسويق الاتفاق، بوصفه إنجازاً مهماً، على نتائجه الاقتصادية والمالية الإيجابية، حتى إذا كانت محدودة النطاق، فليس مستبعداً أن يساهم الاتفاق في طمأنة الأسواق في الولايات المتحدة، والحد من الاضطرابات التي حدثت فيها منذ أواخر عام 2018، الأمر الذي قد يؤدي إلى إنعاش الاستثمارات، وإعطاء ثقة للمستهلكين الذين يُعد إنفاقهم أحد أهم محركات العجلة الاقتصادية، وأبرز عوامل رفع معدلات النمو، لكن ما زال مبكراً جداً الجزم بهذه التوقعات المتفائلة، لأنها تتوقف على ازدياد حالة الثقة، كما يتضح في تذبذب أسواق الأسهم المالية، في الأسبوع الذي تم توقيع الاتفاق خلاله.
ورغم أن التنازلات الصينية في الاتفاق جزئية، يراهن ترامب على إمكان أن تكون مؤثرة اقتصادياً، فضلاً عن أثرها السياسي، ويمكن التمييز فيها بين تنازلاتٍ مضمونة، بالتزام الصين بها، وأخرى غير مضمونة، أما المضمون في هذه التنازلات فهو فتح الصين أسواقها بدرجة أكبر أمام شركات القطاع المالي الأميركية، واستيراد بضائع إضافية لمدة عامين بقيمة تزيد على 200 مليار دولار، مقارنةً بما صدّرته إليها الولايات المتحدة عام 2017، على أن تشمل منتجات زراعية قيمتها 50 مليار دولار.
وقد حرص ترامب على تضمين الاتفاق، ما يُعوّض المزارعين الأميركيين عن بعض ما خسروه، لأنهم يعدون في مقدمة المتضررين من الرسوم الصينية المضادة، فقد كان قلقه واضحاً من التأثير السلبي للسياسة التي يتباهى بصرامتها على المزارعين، الذين يُعدّون من أهم مكونات قاعدته الانتخابية، الأمر الذي دفع إدارته إلى تقديم مساعدات مالية للقطاع الزراعي، قيمتها 28 مليار دولار في عامي 2018 و2019.
أما ما قد لا يكون مضموناً في التنازلات التي قدمتها الصين، فيتركز في بندين أساسيين في الاتفاق: الأول يتعلق بتغيير سياسة الصين، التي تُلزم الشركات الأجنبية المتقدمة للعمل فيها بنقل التكنولوجيا التي تستخدمها (أو بعضها على الأقل)، فالمتوقع أن يكون التزامها بهذا التغيير محدوداً، بمعنى أن تخفض مستوى مطالبها التكنولوجية والضغوط المقترنة بها، لا أن تتراجع عنها، والالتزام الثاني غير المضمون هو خفض الإعانات الحكومية للشركات الصينية الكبيرة.
غير أن ما يبقى مضموناً في الالتزامات الصينية يكفي لمنح ترامب ورقة مهمة لتحريك الاقتصاد الأميركي، ولمنع ركوده في المدى المنظور، وهو ما سيفيد حملته الانتخابية.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية