ثمة مشروعات أصيلة، نابعة من إيمان عميق بالأفكار التي تقوم عليها، مقصود بها وجه الله والخير لعباده، وثمة على العكس مشروعات ديكور وتقليد، تحرّكها المنافع دون إيمان حقيقي بها، لا يراد بها وجهه سبحانه، ولا غاية منها إلا تحقيق مصالح خاصة.
والمشروع الأصيل الحقيقي تعرفه من جذوره الممتدة في الأرض، ونمو فكرته تدريجياً وبمسار طبيعي لا مفاجآت فيه، واتساقه مع الظروف من حوله، وولادته في بيئة منسجمة معه، وكأنما المشروع جزء من صورة اكتملت به.
ومشروع «البيت الإبراهيمي» هو بحق من المشاريع الإماراتية ذات الأصالة، حيث يشاد الآن في جزيرة السعديات بأبوظبي مجمع ضخم متوقع افتتاحه عام 2022، يضم ثلاثة مبانٍ منفصلة لمسجد وكنيسة وكنيس، وحديقة رئيسة للمجمع، ومبنىاً رابعاً مخصصاً كمتحف ثقافي يجتمع فيه الأشخاص بمختلف انتماءاتهم.
ولم يأتِ هذا البيت الأول من نوعه في العالم من فراغ، ولا يقام في فراغ، بل وُلد على أرض كانت وما تزال عاصمة عالمية للتسامح الديني، بل لا تدري أي بقعة من هذه المعمورة غير الإمارات جديرة بحمل هذه الرسالة العالمية في الأُخوّة الإنسانية، إذ إن هذا البيت قد اكتمل بنيانه في الإمارات حتى قبل وضع حجر أساسه، من خلال واقع يعيشه الجميع على هذه الأرض، وكل ما هنالك أنه صار للتسامح الديني عنوان ملموس يمكن الذهاب إليه وطرق أبوابه.
إن التسامح الذي صار له بيت حقيقي في الإمارات أهم قضية إنسانية، فلا شيء مثل التعصب يبعد بين البشر ويزرع بينهم العداوة والبغضاء. ومع ذلك، ورغم خطورة التعصب، فهو حيلة ضعيفة تحتال بها قوى الشر على بني آدم، فلا شيء يستدعي التعصب ضد أي معتقد، وهي النتيجة التي توصّل إليها الفيلسوف الإسلامي جمال الدين الأفغاني، وهو يُعمِل الفكر حول ما يفرّق بين البشر. يقول الأفغاني في «العروة الوثقى»: «رجعت لأهل جرم الأرض، وبحثت في أهم ما فيه يختلفون، فوجدته الدين، فأخذت الأديان الثلاثة، وبحثت فيها بحثاً دقيقاً مجرداً عن كل تقليدٍ، منصرفاً عن كل تقييد، مطلقاً للعقل سراحه، فوجدت الموسوية والعيسوية والمحمدية على الاتفاق في المبدأ والغاية، وإذا نقص في الواحدة شيء من أوامر الخير استكملته الثانية».
لا شيء اختلف عليه البشر ولا يزالون مختلفين حوله مثل الدين، ولا شيء مثل التعصب فيه يحوّل حياتهم إلى جحيم، فمتى ما تمكّن التعصب من قلب إنسان أوهمه بالتفوّق على الآخرين، وأدى به إلى الاستعلاء عليهم، وأوقعه في التحفّز ضدهم، وجرّه في النهاية إلى كراهيتهم وتمني استئصالهم.
ولا شيء في المقابل يفتح على البشر أبواب السعادة مثل التسامح والتعايش من دون تفرقة على أساس المعتقد، فهذا المختلف رفيق في الطريق، يسير معك وتسير معه في مشوار طويل من المبادئ المشتركة، وعند نقطة معينة يدخل إلى بيته وتدخل إلى بيتك، وتتزاوران بعد ذلك بكل أريحية. و«البيت الإبراهيمي» يجسّد تعدد المسارات المؤدية إلى الغاية نفسها، واختلاف الدروب الذي يوصل إلى المقصود الواحد.‏