مشروع تجديد الفكر العربي الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا وفق شروط الاستخدام العمومي للعقل؛ أي ترجمة مقولات ومعايير التقليد الثقافي بلغة العقلانية الكونية.


«مارثا نوسباوم» فيلسوفة أميركية معروفة، أصدرت مؤخراً كتاباً مهماً بعنوان «التقليد الكوسمبوليتي: غرض نبيل لكنه ناقص»، ترجع فيه عن المقاربة الكوسمبوليتية التي كانت تتبناها سابقاً، وتعتمد في مقابلها الأطروحة القومية الليبرالية ولو من منطلقات جديدة.
ما نعنيه بالكوسموبولوتية هو النزعة التي تدعو إلى المواطنة العالمية بديلاً عن الهويات الوطنية أو القومية، وهي نزعة قديمة ترجع للعصر اليوناني، وشهدت دفعة قوية في عصور الأنوار، وانتشرت على نطاق واسع بعد نهاية الحرب الباردة؛ أي في العقود الثلاثة الماضية.
صحيح أن العالم يشهد راهناً ردة فعل قوية ضد العولمة التي هي التعبير الرائج عن المنطق «الكوسمبوليتي»، بحيث يتصاعد الخط القومي المتعصب الرافض لخطاب النخب المعولمة والمستند للهويات الأصيلة المعرضة للذوبان والانسلاخ.
إلا أن ما تقصده «مارثا نوسباوم» هو الحفر العميق في الجذور البعيدة للكوسمبولوتية في الفلسفة اليونانية، التي انطلقت إجمالاً من فكرة الطبيعة الكونية للعقل التي تجمع بين البشر، بما يقتضي تصور نظام كوني جامع لبني الإنسان، وإنْ كان البعد المؤسسي السياسي لهذا النظام غائباً عملياً في هذا الإنتاج الفكري.
ما تنتقده «نوسباوم» في هذا التصور وفي «كوسمبوليات» العصور الحديثة، هو الانطلاق من مقاربة أخلاقية للكرامة الإنسانية لا تقيم شأناً لاعتبارات التمايز المادي أو الطبقي، أي المواقع الاجتماعية التي تفرق بين الأفراد المنتمين لنفس المجتمع. ومن هنا ترى «مارثا نوسباوم»، أن مقتضيات الكرامة لا تكفي لضمان العدالة في مجتمع متنوع ومتفاوت اجتماعياً، ومن ثم تعتمد نظرية الفيلسوف والاقتصادي الهندي «أمارتيا سن» في العدالة الكفائية التي تنيط بالدولة بناء نظام سياسي دستوري يكفل الفرص العملية الموضوعية المتساوية بين أفراده، بحسب السياقات الثقافية والمعيارية الخاصة بكل مجتمع.
ما يتعين استنتاجه من النقاش النظري الواسع الدائر حالياً بين أصحاب النزعة الوطنية المتشبثين بالهوية الوطنية الضيقة خطاً للدفاع عن خصوصية المجتمع ومصالحه، ودعاة النزعة العالمية الذين يستندون لواقع السيادة المتقاسمة والمصالح الكونية المتحققة، هو أن العالم يشهد، راهناً، تحدياً عصي الحسم بين اعتبارات العالمية الكونية التي تترجمها المقولة الإنسانية من حيث معايير الكرامة والحقوق، واعتبارات العدالة التوزيعية في أبعادها السياسية والاجتماعية، التي لا يزال المجال السيادي للدولة الوطنية أفقها الوحيد.
وإذا كان من الصحيح أن يوتوبيا «القرية العالمية» في العصر الإلكتروني و«المجموعة الدولية المتحدة» في حقبة ما بعد الصراع القطبي قد انهارت، كما انحسرت في الآن نفسه الأيديولوجيات الإنسانية الكونية، فإن الأفق الإنساني «الكسموبولوتي» لا يزال هو أفق التفكير الفلسفي والنظري الأوحد للبشرية منذ تشكله في عصور الحداثة والتنوير.
ومن هنا وجاهة العودة إلى الفيلسوف الألماني كانط، الذي هو أول وأهم من صاغ الفكرة «الكوسمبولوتية» ضمن منظوره للاستخدام العمومي للعقل الذي يعني أمرين أساسيين هما: أن حقل التوافق الاجتماعي لم يعد بالإمكان تأسيسه على معايير سلطوية إكراهية وإنما على النقاش العمومي الحر، وأن التصور التداولي للممارسة الفلسفية النقدية يولد بذاته رابطة جماعية مشتركة، هي قوام المجموعة «الكوسمبوليتية» التي ليس من الضرورة أن تتجسد في بناء مؤسسي سياسي.
ما نحتاجه في ساحتنا العربية هو هذا النموذج الكوسمبولوتي في مفهومه الكانطي، بحيث يجمع بين المقتضيات الثلاث المذكورة: أخلاقية الكرامة المتساوية، والعدالة الكفائية العملية، والنقدية العقلانية التواصلية.
مبدأ الكرامة هو المنطلق المعياري والأخلاقي العميق للمساواة الإنسانية التي هي مرتكز مدونة حقوق الإنسان الحديثة، من حيث كونها القيمة الكونية الجامعة التي تتجاوز محددات الانتماء السياسي والمواطنة القومية.
والعدالة الكفائية هي التعبير عن الجوانب العملية الإجرائية في تدبير علاقات المواطنة داخل مجتمع سياسي منظم، بما يكفل الحقوق المتساوية والفرص المتكافئة في النفاذ إلى مواقع التأثير الاجتماعي والمنافع الاقتصادية.
أما النقدية العقلانية فهي مجال للكوسمبولوتية التواصلية، بمعنى أن الاستخدام العمومي الإجرائي للعقل لا يمكن أن يتم إلا في فضاء كوني لا حدود فيه. بمعنى آخر، أن كل المحاولات لبناء ممارسة معرفية ونظرية أصيلة خارج المجال التداولي العالمي عقيمة ولا يمكن أن تفضي إلى نتيجة ناجعة. فلا عبرة بالحديث عن «العقل العربي» أو «العقل الإسلامي» كما شاع في العقود الماضية، فمن الجلي أن مشروع تجديد الفكر العربي الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا وفق شروط الاستخدام العمومي للعقل؛ أي ترجمة مقولات ومعايير التقليد الثقافي بلغة العقلانية الكونية.
*أكاديمي موريتاني