استهدفت الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان بوضوح الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية، لكن هناك عاملاً آخر يجب ألا نتجاهله وهو الإحباط واسع النطاق من الدور الذي تلعبه ميليشيات حليفة لإيران في كلا البلدين. ويمثل قلق اللبنانيين والعراقيين من استغلال الجماعات الطائفية من الخارج لتحقيق طموحات إقليمية، وهذا القلق في حد ذاته يعتبر تطوراً جديداً.
ففي كتابي الصادر عام 2013 بعنوان «النظر إلى إيران»، أشرت إلى صعود وانهيار صورة إيران في الرأي العام العربي. وتوصلت استطلاعاتنا في «مركز زغبي البحثي» إلى أنه بينما كانت إيران تتمتع بمعدلات تأييد كبيرة للغاية في عام 2006 في كل بلد عربي أجرينا فيه مسحاً حيث تراوحت نسبة التأييد بين 65% و85%. لكن هذه الأرقام الإيجابية انزلقت في السنوات الست التالية إلى أقل من 40% في كل بلد عربي ماعدا العراق ولبنان، فقد ظلت معدلات التأييد في كلا البلدين مرتفعة في حدود 60%. ومنذئذ يتواصل المسار الهابط لميول العرب عموماً نحو إيران، لكن هذا صاحبه تطور إضافي. ففي مسحنا الذي أجريناه عام 2019 عن الرأي العام العربي، وجدنا أن اللبنانيين والعراقيين قلقون الآن من إيران.
ودعنا نلقي نظرة وراء الأرقام. ففي عام 2006 وبداية عام 2008، كانت إيران تحظى بمكانة جيدة في العالم العربي. فقد أدى الغزو الأميركي للعراق والهجوم الإسرائيلي على لبنان ليس فقد إلى غضب على امتداد العالم العربي، بل وفرت هذه التطورات فرصة لإيران أيضاً كي تدعم مكانتها في مواجهة الغرب. فقد ادعى الإيرانيون أن  الدول العربية الأخرى لم تصمد في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل. وهذا الصعود في العالم العربي لتأييد إيران بدأ يتآكل عام 2008 حين لجأ «حزب الله»، حليفها في لبنان، إلى السلاح في خلافه مع خصومه اللبنانيين المحليين. فقد أصبحت إيران فيما يبدو أكثر اهتماماً بدعم الصراع الطائفي لخدمة مصالحها.
ثم بدأت معدلات التأييد المرتفعة لإيران في العالم العربي تتراجع بعد ذلك بسنوات قليلة حين دعمت إيران الرئيس بشار الأسد في الحرب الأهلية السورية وجندت ميليشيات طائفية من أنحاء المنطقة في القتال لدعم النظام السوري. وحتى في ظل هذه الظروف، ظلت اتجاهات العراقيين واللبنانيين نحو إيران إيجابية، وكان هذا يرجع في جانب منه إلى أن الجروح التي تسببت فيها الولايات المتحدة في العراق وانتهاكات إسرائيل في لبنان كانت تمثل تهديداً أكبر من التدخل الإيراني.
وفي السنوات التالية، استمر تراجع معدلات التأييد لإيران على امتداد العالم العربي مع ظهور دور لطهران بشكل متزايد في أحداث في العراق وسوريا ولبنان واليمن. فحين تباهى الزعماء الإيرانيون بنفوذهم في عدة عواصم عربية، بدأ الجمهور العربي ينظر إلى إيران باعتبارها دخيلاً مثيراً للمتاعب يخدم مصالحه وليس داعماً للمقاومة.
وبحلول عام 2018، وباستثناء العراق ولبنان، بلغ أعلى معدل من التأييد لإيران في أي بلد عربي أجريت فيه عمليات استطلاع للرأي 20% وكان ذلك في الأردن، نزولاً من 70% عام 2006. وكان أدنى معدل للتأييد في مصر حيث بلغ أقل من 5%. لكن معدلات التأييد لإيران في لبنان والعراق ظلت عند 60%.
وأحد النتائج المثيرة للقلق نوعاً ما في استطلاعات الرأي تلك هو الانقسام الطائفي الواضح في الميول نحو إيران في الدول التي بها نسب كبيرة من السنة والشيعة يمكن قياسها. وهذا بالطبع مسؤول عن معدلات التأييد الأعلى بكثير التي حصلت عليها إيران في لبنان والعراق، لكن انقساماً مشابهاً لوحظ في بعض دول الخليج.
فحين أجرينا استطلاعنا عام 2019، لاحظنا تغيراً ملحوظاً في الاتجاهات نحو إيران في لبنان والعراق. وطلبنا من الخاضعين للاستطلاع أن يحددوا مجالات السياسة الإيرانية التي تثير قلقهم ويرتبوا أهمية هذه المجالات بالنسبة لهم. وذكر الخاضعون للاستطلاع تسع مجالات، وأشار ستة تقريباً من كل عشرة لبنانيين إلى تدخل إيران في بلدهم باعتباره أكثر ما يثير قلقهم. وأشار سبعة من كل عشرة عراقيين إلى أنهم قلقون من تورط إيران في بلادهم. والأهم أن نصف العراقيين الشيعة تقريباً وثلث اللبنانيين الشيعة كانوا من بين الذين وافقوا على أن أكثر ما يثير قلقهم من إيران هو تدخلها في شؤون بلادهم.
ولذا فلا غرابة أن تصبح إيران أحد أهداف غضب المحتجين حين اندلعت الاحتجاجات الحاشدة في العراق ولبنان. هذا لا يقلص استياء المحتجين من تردي الوضع الاقتصادي. فقد أوضح استطلاعنا للرأي في البلدين الاستياء العميق لدى الجمهور من أوضاعهم الحالية بل ومن ضعف أملهم في تغير هذه الأوضاع في المستقبل. ولا يعني هذا الإحباط الجديد من إيران أن اللبنانيين والعراقيين يشعرون الآن أنهم أقرب إلى الولايات المتحدة، فأفضل ما يمكن وصف الميول به تجاه الولايات المتحدة في كلا البلدين أنها «فاترة»، بل هذا يعني أنه قد انقضى الزمن الذي كانت تستطيع فيه إيران وحلفاؤها العمل دون خوف من تداعيات سلبية. وحين تم حشد الميليشيات المؤيدة لإيران لتهاجم المحتجين في لبنان أو لإطلاق النار في العراق، أصبحت قائمة أولويات إيران واضحة، ما قد ينهي نفوذها في كلا البلدين.
*مدير المعهد العربي الأميركي- واشنطن