تتعدد النماذج، سواء أكانت قريبة أم بعيدة عنا، وتختلف مساحات البلدان وطبيعة شعوبها، بل والظروف التي تحيط بها، إلا أنها تمر جميعها، عبر غمامة زمانية ومكانية، ويعيش أفرادها في ظروف كان السبب في تأجيجها الجماعات ذات الاتجاه المصلحي الأحادي، ساعيةً لتصدير شعاراتها كحل أمثل ووحيد للمجتمعات، ومخفية وراء كل ذلك مطامع لا تؤول إلا لتغذية منابع الكراهية واللاتسامح وبث ثقافة الانزواء والشعور بالتهميش، بدلاً من القيام بالدور الإنساني الرسالي الذي ترنو إلى نتائجه الشعوب وتزهو كما لم تكن من قبل ضمن إطار التعايش والتفاهم والتسامح.
وفي هذا الصدد يبرز ما للعلماء من أهمية ومكانة تنساب من المسؤولية العظيمة التي يحملونها على عواتقهم، ويحيون نبضها في أفعالهم وضمائرهم النابضة، نحو تبديد ظلمة التطرف والتغلب على تحدياته، وإحلال قيم السلام والتناغم، والعمل الجاد لإيضاح ما التبس فهمه وتم تحويره من أجل الشعارات «المستغلة» من قبل المتطرفين، ولاجتثاث جذور الكراهية وغرس فسائل الوئام والسلم والطمأنينة في المجتمعات، والاستفادة من الموارد المتاحة في مجالات التربية والإعلام، في تحقيق هذا المشروع الإنساني والأخلاقي الذي دعا له الدين الإسلامي الحنيف.
وإننا، علماء وأكاديميون ودعاة وأئمة وصناع قرار.. نتطلع لأفريقيا مستقبلية قالبة لمعايير المحن إلى منح، وكاسرة للقيود المشككة بقدراتها وأهليتها لتكون قارة لعالم الغد، باستثمار كفاءات وطاقات مجتمعاتها، ووقف نزف الهجرات، والالتفات بجدية لجيل أفريقي صاعد يضع يده بأيدي حكوماته النبيهة، متجاوزاً لجوانب التهميش كافةً، سواء أكانت تعليمية أم اقتصادية أم صحية.. مستفيداً من جهود علمائه في نشر ثقافة التسامح والتآخي والاعتدال ضد ثقافة التطرف والاقتتال.
لذا تشتد الحاجة كل يوم لطرح خطة عملية وواقعية لمواجهة وعلاج ظاهرة التطرف، حتى لا تقتصر جهود الباحثين والمفكرين والمختصين بالظاهرة، على ردود الأفعال المترتبة على الأحداث والتحولات التي تغير من عالمنا، وتقوده نحو طريق مجهول. وهذا هو جوهر مبادرة العلامة الشيخ عبدالله بن بيه في عقده لمؤتمر «علماء أفريقيا ضد التطرف» بنواكشوط بين يومي 21 و23 من يناير الجاري، برعاية كريمة من رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية، إذ لا بد من إيلاء القارة السمراء جهود علمائها أولاً، ومجتمعاتها ثانياً، للخروج بها نحو أحلام وطموحات تعانق السماء، ولتعهد بذرة الإرادة المتعطشة للولادة والانتشار وخلق «أفريقيا جديدة»، محافِظة على تعددها الثقافي وموروثها الغني بالتسامح والتعايش والسلام، موحدةً الصف الأفريقي بسواعد شبابها المعطاء، تحت ظل حكوماتهم الرشيدة.
ولا يمكن لمقاربة أحادية، تتجاهل بقية المجالات أن تكون الحل الأمثل في التصدي لظاهرة التطرف وانتشار ميليشيات الموت على طول خط دول الساحل والصحراء، وبخاصة في ظل تدافع التحديات وتداخلها على الصعد كافة، بل لا بد من تعاضد المقاربات، وتسخير جهودها للوصول لمنظومة متكاملة متكاتفة ومتداخلة تفرض إيجاد الحلول، وتبادر لحل المشاكل قبل وقوعها، درءاً لمظاهر التطرف وسداً للمعابر والمجالات كافة التي يحاول التطرف وجماعاته اختراق الأوطان وعقول الشباب من خلالها.
وعلى الرغم من التشعبات الصعبة في حلحلة هذه الظواهر الاجتماعية وغيرها، فلا بد من تخصيص مساحة مهمة تركز على العلماء، لما يترتب عليهم من مسؤوليات في إيجاد المداخل الفكرية الملائمة، ما يعني «تأثيث البيت الداخلي» للمجتمعات، وصولاً إلى استثمار طاقات مسلمي أفريقيا، وخلق بيئة حاضنة للتعدديات الإثنية واللغوية والدينية وغيرها، وذلك صوناً للموروث الحافل بتراكم تجارب المسلمين الحضارية السابقة، ومؤسسات قادرة على الاستفادة من الكفاءات العلمية حفاظاً عليها من الهجرة إلى بلدان خارج القارة، ونيلاً من كل ما يستهدف حصون الدولة ومقومات استقرارها وشبابها بالأفكار المتطرفة، وإيجاد رحابة تكفل الحصانة وتضمن أداء الممارسات الشعائرية في أمن وأمان.
وبذلك تتبلور جهود العلماء المسلمين لتكون ترياقاً شافياً من سم الإرهاب والتطرف، محققةً مواجهة أبرز الرهانات الأفريقية، ومسلطةً الضوء على سبل تحويلها إلى مقدِّرات، في سبيل طرح آليات تفعيل دور شبابها من المجتمعات المسلمة للنهوض بمجتمعات القارة، وصولاً إلى تعزيز الثقة في مقدرات أفريقيا ومؤسساتها لدى الأجيال الحالية والقادمة.