انتقال العالم إلى العصر الصناعي بدأ، كما هو معروف، في أوروبا التي قادت ثورة صناعية غيّرت وجه الحياة على الأرض، هذه الثورة بدأت تفقد بريقها لصالح الثورة الرقمية التي انتقلت قيادتها من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تقود العالم للولوج في عصر جديد، يختلف تماماً عن العصر الصناعي الذي استنزف إمكاناته - من وجهة نظرنا- في البلدان الصناعية، وفي الولايات المتحدة تحديداً.
ربما من الصعب تفسير هذا الطرح بصورة مفصلة، إلا أنه حتى القطاع الصناعي المزدهر ذاته في البلدان الصناعية بات يعتمد أكثر وأكثر على الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، فلو مررنا، على سبيل المثال، على مصنعين متماثلين في الولايات المتحدة وآخر في بلد آسيوي أو أفريقي، فإنه يمكن ملاحظة وجود مائة عامل في الحالة الثانية، مقابل عشرة عمال فقط في الحالة الأولى، حيث تقع بقية دول العالم، بما فيها العملاق الصيني، في حالة وسط بين هاتين الحالتين.
والحال، فإن هذا التطور لا يشمل القطاع الصناعي فحسب، وإنما يشمل كافة القطاعات الاقتصادية، كالتجارة والنقل والخدمات المالية، فالتجارة الإلكترونية وعملاقها الأميركي «أمازون» أضحت مهدداً حقيقياً للقطاعات التجارية في كافة بلدان العالم، التي لا تعرف كيفية التعامل مع هذا التحول الرقمي السريع، والذي يساهم بصورة كبيرة في انتقال الأموال والأرباح لمؤسسات خارج الحدود.
يتم ذلك عبر الشركات الأميركية العملاقة التي تهيمن بصورة شبه مطلقة، مستخدمة خدمات الإنترنت الأميركية، مما حدا بالدول المؤثرة، كبلدان الاتحاد الأوروبي، لاتخاذ إجراءات للحد من أنشطة هذه الشركات، وكذلك الحد من خروج الثروات أو على الأقل إبقاء جزء يسير منها داخل الحدود.
في هذا الصدد اتخذت بعض الدول الأوروبية، كفرنسا وبريطانيا، إجراءات عملية لفرض «ضريبة رقمية» على الشركات الأميركية، معتقدة أن هذا الإجراء سيؤتي ثماره في عصر الإنترنت شديد المنافسة والمهيمن عليه من طرف واحد. لم يمر وقت طويل حتى هددت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب برفع الضريبة على واردات واشنطن من السيارات بنسبة كبيرة، ورفعها من 2.5% إلى 25% مما يعني إلحاق ضرر كبير بصناعة السيارات الأوروبية التي تعاني أصلاً من انخفاض المبيعات.
هنا بالذات نصل إلى الفكرة التي أوردناها في بداية مقالتنا هذه، أي الصراع بين الصناعات التقليدية العائدة للثورة الصناعية التي قادتها أوروبا، وبين العصر الرقمي الذي تقوده الولايات المتحدة، ذلك التناقض الذي سيحدد الكثير من سير التطورات والصراعات الاقتصادية والتجارية في السنوات القادمة.
أدى ذلك إلى سرعة تراجع فرنسا عن فرض الضريبة الرقمية على الشركات الأميركية، من خلال حفظ ماء الوجه، بالقول إنها قررت تأجيلها إلى ديسمبر من العام الحالي، أما وزير المالية البريطاني ساجد جاويد، والذي ربما تختلف طريقة تعامله مع هذه التحديات، فقد صرح من دافوس أن بريطانيا ستمضي قدماً في تطبيق الضريبة اعتباراً من أبريل القادم 2020 وذلك رغم أن هذا الموقف من المتوقع أن يتغير في ظل الإجراءات الأميركية المضادة.
وعلى الرغم من أنه من غير المستبعد أن يتم التوصل لتفاهمات ومساومات بين الطرفين الأوروبي والأميركي والوصل إلى حلول وسط، فإن هذا الاتجاه سيأخذ مداه في السنوات القادمة، وسيشمل كافة دول العالم التي تحاول الكبيرة منها، كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، إيجاد بدائل رقمية، في حين لا تتوفر حلول عملية للبلدان الأصغر والأكثر تضرراً والتي تحاول بدورها إيجاد بعض البدائل المحلية دون جدوى، فالتجارة الإلكترونية، على سبيل المثال، تحتاج لأسواق كبيرة وإمكانات وطاقات تقنية مكلفة، لا تتناسب جدواها الاقتصادية، إذا ما اقتصرت على أسواق صغيرة. هذه إحدى أهم التحديات القادمة بقوة، وستنعكس آثارها وتداعياتها على توزيع الثروة والمستويات المعيشية بين مختلف دول العالم، وبالأخص انتقال الثروات بين الدول، وهي مسألة يجب الاستعداد لها بصورة جماعية، للتقليل من تداعياتها السلبية.