ما زلت أطالب بدور عربي في القضية السورية، وهو لا يتعارض مع تدويلها بعد أن صارت ساحة صراع عالمي، لكنها تبقى قضية عربية بامتياز، ومحاولة إخراجها من فضائها العربي كارثة كبرى للأمة، وربما قال قائل (وهل هناك أمة للعرب بعد أن تمزقت عراها، ووهنت قواها؟). وأقول: أثبت العرب أنهم قوة كامنة كبرى منذ أن هبت الشعوب العربية من غفوتها، وانتفضت من تحت رماد السنين، تجأر بصوت واحد يتردد صداه في أرجاء الكون، تطالب بحريتها، فإذا العالم كله يخشى الصدى، ويسارع لإطفاء جذوته، ولئن كانت هناك دول تعاطفت مع مطالب العرب بالحرية والديموقراطية فإن بعضها الآخر خشي أن تفقد السيطرة على أهم بقاع الأرض، التي هي مركز التواصل بين القارات والأمم، ووجدنا من سارع لإجهاض نهوض العرب بعدما عجزوا عن تصدير ثورتهم التي سموها (إسلامية)، رغم أنها انطلقت في بدايتها ثورة ديمقراطية صرفة، لكن الغارقين في غياهب التاريخ اختطفوها وجاؤوا بعقائد غير قابلة للتصدير، وقد فاجأتها مطالب العرب بحكم رشيد غير طائفي أو عرقي أو إثني، فخشيت أن ينهض العرب في المنطقة، وأن يستعيدوا حضورهم الذي فقدوه على مدى قرون اعتلى فيها صهوة الأمة العربية أخلاط من شعوب شتى اعتنقت الإسلام، وحكمت باسمه، واختلط الصالح بالطالح.
ولئن كان الفكر القومي قد خسر جولاته في سوريا ومصر والعراق ولبنان بعد الهزائم والنكسات، فإن هذا لا يعني أن يفقد العرب هويتهم وانتماءاتهم، وما يزال العالم كله يرانا أمة بينما بات فينا من يريد التخلص من هويته، وقد يمتلك جنسية أخرى لكنه لن يملك هويتها.
إن انكفاء العرب عن موقع قيادي في القضية السورية مكّن إيران من الظهور العلني ممثلة للنظام، وجعل تركيا واجهة للمعارضة، ولست أتجاهل موقف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية في السعي الدؤوب لإنجاز الحل السياسي، لكن دولاً عظمى عطلت هذا المسار، وجعلته تزجية للوقت حتى يتمكن النظام من فرض الحل العسكري الذي مضى فيه من بداية الأحداث رافضاً كل الحلول السياسية، مما يستدعي أن يعود الموقف العربي لإيجاد مخرج من الأزمة الراهنة التي عطلت مسار هيئة التفاوض بعد تراجع النظام السوري عن متابعة عمل اللجنة الدستورية التي ولدت ميتة لأن بنيتها مفككة، وغير قادرة على الوصول إلى حل قابل للنفاذ.
وما يحدث في الشمال السوري اليوم وبخاصة في إدلب وأريافها يستدعي تدخلاً عربياً يستنهض الموقف الدولي، فليس من المعقول أن يحاصَرَ نحوُ أربعة ملايين مواطن سوري باتوا هائمين على وجوههم في العراء، يفترشون الوحل وهم بلا غطاء أو غذاء أو دواء، وبلا أي شرط إنساني للبقاء، وجلُّهم أطفال ونساء، والعالم كله يتفرج، وقد باتوا الدريئة التي تحتمي خلفها عصابات سيطرت على إدلب ومحيطها، ولابد أنها وجدت دعماً يمكنها من هذا الاستعصاء.
إنني أدعو العرب جميعاً إلى سعي دولي كثيف لاقتراح حلول سريعة لإنقاذ الموقف في إدلب وفي الشمال السوري كله، وإلى حض الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، لإيجاد مخرج غير الموت المحقق والتشريد.
إنني أدرك أن بعض الدول العربية منشغلة اليوم بقضاياها المحلية، لكن تداعيات القضية السورية مستقبلاً ستنعكس على الجميع.