من‎ بين القضايا العديدة التي كثر الحديث عنها في الأعوام الأخيرة تأتي قضية تجديد الخطاب الديني، وقد جرت من حولها نقاشات بل وجدل كبير، بين من يرون أن الاقتراب من الثوابت أمر لا يمكن القبول به، وفريق آخر يذهب في طريق حتمية مواكبة العصر، من خلال السير في طريق ما يسمى فقه النوازل أو المستجدات. الأسبوع‎ الماضي شهدت العاصمة المصرية القاهرة مؤتمراً في هذا الإطار عقد تحت راية الأزهر الشريف، وبمشاركة دولية واضحة في محاولة لحسم الإشكالية المعاصرة، يعن لنا أن نتساءل بداية : هل أضحت قضية الخطاب الديني وتعديل أو تقويم مساراته أمر ملح في حاضرات أيامنا؟ الشاهد‎ أن ذلك كذلك قولاً وفعلاً، لا سيما في ضوء التطورات غير المسبوقة التي تجري بها الأحداث من حولنا، والتغيرات الجيوبوليتيكية، وانساق العالم المعولم، وتحرك قلب العالم من الغرب إلى الشرق، ونشوء وارتقاء عوالم رقمية خلفية، بخلاف العالم الظاهري الذي كان الجميع يألفه طوال ألفي عام، ما يعني أن اللسانيات التي كانت سائدة من قبل، والأفكار التي هيمنت ربما تراجعت وحلت محلها آليات تفكير مغايرة تستدعي لغة وخطاباً دينياً مختلفاً.
أحسن‎ كثيراً جداً الرئيس عبد الفتاح السيسي حين أشار في كلمته التي ألقاها نيابة عن سيادته رئيس الوزراء المصري المستنير الدكتور مصطفى مدبولي حين أشار إلى أن التجديد لا يمكن بحال من الأحوال أن يمس ثوابت الدين ولا العقيدة، وإنما يمكن السعي به في إطار فقه المعاملات الحياتية، تلك التي ينتابها المد والجزر، والتي تتغير بتغير أوضاع الحياة وأطوارها، أشكالها وأنواعها.
الخطاب‎ الرئاسي المصري للذين التئم شملهم في المؤتمر الأخير وضع الأيدي على مكامن الألم والجروح التي استعصت كثيراً على الدواء، إذ أشار إلى أن التراخي عن الاهتمام بتجديد الخطاب الديني من شأنه ترك الساحة لأدعياء العلم ليخطفوا عقول الشباب ويدلسوا عليهم أحكام الشريعة السمحة وينقلوا لهم التفسير الخاطئ للقرآن والسُنة.
مصداقية‎ حديث السيسي يمكن القطع بها بالمقاربة مصرياً وعربياً بين فترتين زمنيتين: الأولى في النصف الأول من القرن العشرين ، وقد كانت فيها مساحات المعرفة ورحابتها تعلو على ضيق الأيديولوجيات، لم تكن الدوجمائيات قد انفجرت إلى الحد الذي نراه الآن.
‎ أما المرحلة الثانية، فقد تبدت في قيودها وظلاميتها في النصف الثاني من ذلك القرن مند بداية الستينات والسبعينات وصولاً إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، حيث عادت مفاهيم التقسيم المانوي للعالم، أي النظر إلى الكون بوصفه أخياراً وأشراراً، فسطاط للخير وآخر للشر، دار للحرب وأخرى للسلام، أسود وأبيض وغابت في المنتصف كافة الرؤى المختلفة الألوان.
ولعله‎ من رحمة الخالق أن هناك في العمق الديني والإيماني القرآني تحديداً وجود ثوابت لا تتغير أو تتعدل، أحكاماً ثابتة قطعياً، وبجوارها أحكام أخرى تتعدل وتتبدل وفقاً لمعطيات العصر، كما أن الفتوى تتغير من بلد إلى آخر، ومن زمن إلى زمن مغاير، بل ومن شخص إلى غيره.
‎ الأزهر الشريف منارة وسطية للإسلام السمح المعتدل الذي يقبل الآخر ويفتح الأبواب واسعة للقائه، ويمعن النظر في أحوال الإنسان، في يومه وغده، ولهذا كان الشيخ الإمام الدكتور أحمد الطيب من المجددين والمطالبين بالتعلق بجوهر الإسلام وروحه، وقد ذهب إلى أن قانون التجديد أو التجدد هو قانون قرآني خالص، توقف عنده طويلا كبار أئمة التراث الإسلامي، وبخاصة في تراثنا المعقول واكتشفوا ضرورته لتطور السياسة والاجتماع، وكيف أن الله تعالى وضعه شرطاً في كل تغيير إلى الأفضل، وإن وضع المسلمين من دونه، لا مفر له من التدهور السريع والتغير إلى الأسوأ في ميادين الحياة.
يعن‎ لنا أن نتساءل هل مسألة التجديد هذه قاصرة على العالم العربي والإسلامي، أو بمعنى آخر قصراً على الإسلام فقط؟ المؤكد أن الكثير من الأديان والمؤسسات الدينية والإيمانية الكبرى حول العالم قُدر لها ذات مرة أن تقف أمام منحنيات العصر بالتطوير والتجديد، كما جرى مع المؤسسة الكاثوليكية الرومانية أوائل ستينات القرن الماضي، حين دعت إلى ما بات يعرف لاحقاً بـ «المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني» (1962-1965)، وكانت قبله قد بلغت حداً واضحاً من التكلس الفكري، غير أنه وفيما بعد قدر لها الانطلاق في سماوات رحبة من الانفتاح المعرفي والإيماني، وإنْ بقي الجدل قائماً حتى الساعة بين المحافظين والمجددين.
يحتاج‎ العالم العربي والإسلامي إلى إرادة حقيقية قابضة على الجمر تسعى في طريق تمكين التيار الإصلاحي الوسطي من انتشال الشعوب العربية والإسلامية من وهد أفكار عفا عنها الزمن، والخوض بها في غمار معارك العالم المعاصر بروح وثابة وعقل خلاق ومن غير دونية أو صغر ذات، بل بقدرة كافية للتثاقف مع العالم من حولنا وحتى لا يمضي الآخرون ويخلفوننا وراءهم مرة وإلى ما شاء الله.
*كاتب مصري