بريكسيت تم.. هذا هو العنوان الرئيسي الذي يمكنك أن تقرأه في كل الصحف الأوروبية ووسائل الإعلام الدولية. فبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من المفاوضات، أصبح بريكسيت الذي أيده 52 من الناخبين البريطانيين في استفتاء 2016، واقعاً. وبعد 47 عاماً من العمل الأوروبي، خسر الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى دولة عضواً يبلغ عدد سكانها 66 مليون نسمة.
وبعدما أعاد جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، التفاوض على النص مع بروكسل، تمكن من تمريره في البرلمان عقب حصوله على غالبية برلمانية كبيرة، قبل أن يصادق عليه البرلمان الأوروبي.
كان الجميع يصفق للاتحاد الأوروبي الذي هو عبارة عن مشروع وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح مشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول وحكومات وخبراء وبرلمانيي الأمم، ورغم تباين دوله من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فإنها استطاعت مجتمعة من خلال حكمة بعض أعضائها ومبادئهم الوحدوية، إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة وحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وتمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هذه المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية واقتصادية وتشريعية، مما جعل الاتحاد الأوروبي نظاماً سياسياً وقانونياً له طابع خاص.
وكان جل الوحدويين يؤمنون بصلابة الاتحاد الأوروبي إلى أن وقع هذا الطلاق، فخروج بريطانيا من الاتحاد يعتبر كابوساً للأوروبيين، خاصة فرنسا وألمانيا، لأنه يمكن حصول العدوى في المستقبل القريب ومعاينة خطوات مشابهة من طرف دول أعضاء، فالقوميون الذين يعارضون الفكرة الأوروبية متواجدون، وسيجدون في هذا السبق البريطاني ذريعة لتحريك ناخبي بلدانهم في اتجاه الانفصال عن العائلة الأوروبية.
ومعلوم أنه من بين الأسباب التي جعلت بريطانيا تعلن البريكسيت، أن القوميين البريطانيين وغيرهم لا ينظرون بعين الرضا إلى خضوع بلدهم لسلطة مؤسسات مستجدة وبعض أعضائها دول حديثة العهد بالليبرالية والديمقراطية، ليجدوا أنفسهم معها على نفس القصعة الأوروبية، حيث سيادة المحاكم الأوروبية وسلطة المؤسسات الاتحادية (بما فيها البرلمان الأوروبي).. وبلادهم موطن أقدم برلمان ديمقراطي في العالم.
وهناك سبب آخر ما فتئ المطالبون بالخروج من الاتحاد ينادون به، وهو أن السفينة الاقتصادية الأوروبية أصبحت عرضةً لرياح عاصفة وأمواج عاتية تأتيها من كل اتجاه، والحكيم هو مَن يقفز في الوقت المناسب، وإلا دفع الثمن. والمثال اليوناني مازال عالقاً في الأذهان، والأزمات المالية لإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، والركود الاقتصادي في العديد من الدول الأعضاء.. كل ذلك منذر بسنوات عجاف، مقابل اقتصاد بريطاني يشهد نمواً متزايداً.
ومع ذلك فخروج بريطانيا، حسب الخبراء، يطرح علامات استفهام ملؤها التشكيك بشأن المستقبل الذي ينتظر المملكة المتحدة، لاسيما أنها ما تزال منقسمةً بعد ثلاثة أعوام على الاستفتاء الذي أيّد فيه 52% من البريطانيين خروج بلادهم من التكتّل الأوروبي. وتنتظر المملكة المتحدة مفاوضات عسيرة لتغيير الاتفاقيات التجارية والاقتصادية والمالية السابقة، ولهذا اختارت صحيفة «تايمز» لصفحتها الأولى عنوان «نقطة البداية: المملكة المتحدة تغادر الاتحاد الأوروبي»، مشيرة إلى المفاوضات الصعبة التي يتعين على لندن خوضها مع بروكسل لتحديد أطر العلاقات الجديدة بين الطرفين، وكذلك المفاوضات التي ستجريها مع دول أخرى في مقدّمتها الولايات المتحدة بعدما أبدى الرئيس الأميركي حماسه لهذا الانفصال، معتبراً أنه يشكل أفقاً اقتصادياً جديداً.
يعد البريكسيت طلاقاً مؤلماً بين الاتحاد الأوروبي وخامس أكبر اقتصاد في العالم، وهو أمر من شأنه تقويض النمو العالمي والضغط بشدة على أسواق المال وإضعاف وضع لندن بوصفها المركز المالي الدولي الأبرز. وداخلياً ستكون هناك تداعيات سلبية على الاقتصاد البريطاني تتعدى التخوفات التي أطلقها بعض الأحزاب لتبرير الانفصال خاصة في مجال الهجرة والتدفق غير المسبوق في تاريخ أوروبا للمهاجرين القادمين من دول الصراع في منطقة الشرق الأوسط، والمهاجرين الذين يأتون من دول في الاتحاد الأوروبي مثل رومانيا وبولندا وغيرهما.